التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ }؛ قال ابنُ عباسٍ في سبب نزولِ هذه الآية: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ ابْنَ عَمَّتِهِ عَبْدَاللهِ بنَ جَحْشٍ قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَهُوَ أمِيْرُهُمْ، كَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كِتَاباً، وَقَالَ لَهُ: إذ نَزَلْتَ مَنْزِلَتَيْنِ، فَافْتَحِ الْكِتَابَ وَاقْرَأهُ عَلَى أصْحَابكَ، ثُمَّ امْضِ لِمَا أمَرْتُكَ بهِ، وَلاَ تُكْرِهْ أحَداً مِنْ أصْحَابكَ عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ.
فَسَارَ عَبْدُاللهِ حَتَّى بَلَغَ مَنْزِلَتَيْنِ، ثُمَّ فَتَحَ الْكِتَابَ فَإذَا فِيْهِ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، أمَّا بَعْدُ: فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ بمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ أصْحَابكَ حَتَّى تَنْزْلَ بَطْنَ نَخْلَةَ، فَتَرْصُدَ بهَا عِيرَ قُرَيْشٍ، لَعَلَّكَ تَأْتِيْنَا مِنْهُمْ بخَبَرٍ. وَالسَّلاَمُ.. فَقَالََ عَبْدُاللهِ: سَمْعاً وَطَاعَةً لأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ الْقَوْمُ مَعَهُ حَتَّى وَصَلُواْ بَطْنَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَنَزَلُواْ هُنَاكَ.
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ مَرَّ بهِمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي عِيْرِ لِقُرَيْشٍ فِي أوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَظُنُّونَ أنَّهَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الأُخْرَى، فَأَمَرَ عَبْدُاللهِ أنْ يَحْلِقُواْ رَأسَ عُكَاشَةَ لِيُشْرِفَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَظُنُّواْ أنَّهُمْ عُمَّارٌ فَيَأْمَنُواْ. فَفَعَلَ ذلِكَ وَأمِنَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالَوُاْ: قَوْمٌ عُمَّارٌ لاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهَُمْ.
وَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِاللهِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ وَاسْتَأْسَرَ بَعْضَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَهَرَبَ بَعْضُهُمْ إلَى مَكَّةَ، وَاسْتَاقَ الْمُسْلِمُونَ الْعِيْرَ، فَعَيَّرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بذَلِكَ وَقَالَواْ: اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، شَهْراً يَأْمَنْ فِيْهِ الْخَائِفُ وَيُطْلَقُ فِيْهِ الأَسِيرُ. وَوَقَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أمْرِ الْغَنِيْمَةِ"
، فَأَنْزَلَ اللهُ تََعَالَى هَذِهِ الآيَةِ). ويقال: لَمَّا أمرَ الله المسلمين بالقتال، ظنُّوا عمومَ الأمر في جميع الشهور، فسألُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرفوا، فنَزلت هذه الآيةُ. والقولُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ القرآن.
ومعنى الآيةِ: { يَسْأَلُونَكَ } عن قتالٍ في { ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ } لأن قوله: { قِتَالٍ فِيهِ } بدلٌ الاشتمال عن الشهرِ الحرام، وقَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أي القتالُ في الشهر الحرام عظيمُ الذنب عند اللهِ تعالى، ثم استأنفَ الكلام فقال: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي منعُ الناسِ عن الكعبة أن يأتوها ويطوفوا بها { وَكُفْرٌ بِهِ } أي وكفرٌ بالله تعالى، ويقال: بالحجِّ، أو كفرٌ بالمسجد الحرام.
وَقِيْلَ: فيه تقديمٌ وتأخير، تقديرهُ: وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجدِ الحرام وكفرٌ بالله وإخراج أهل المسجدِ الحرام منه أعظمُ عقوبة عند الله من القتال في الشهرِ الحرام، أي الكفارُ مع هذا الإحرام أولَى بالعنتِ ممن قَتل مشركاً في الشهر الحرام كما قالَ تعالى: { وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ }؛ أي الشركُ بالله أعظم عقوبةً وإثماً من القتالِ.
ومعنى كفرهم بالمسجدِ الحرام: أنَّ الله جعلَ المسجد الحرام للمؤمنين ولعبادتِهم إياهُ فيه، فلما جعله الكفارُ لأوثانِهم ومنعوا المسلمين منه، كان ذلك كفراً منهم بالمسجد الحرامِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ }؛ معناهُ: لا يزال أهلُ مكة يقاتلونكم أيها المسلمون حتى يصرفونَكم عن دينكم الإسلام إلى دينهم الكفر إن قَدِرُوا على ذلك، ثم حذَّر الله المؤمنين ليثبتوا على الإسلامِ فقال عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }؛ أي مَن يَرْجِعْ منكم عن دين الإسلام فيَمُتْ على كفرهِ، { فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي التي عملوها للآخرةِ؛ أي لا يبقَى لعمل من أعمالكم ثوابٌ يجازون به في الدارين، الآية: { وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } مقيمون دائمونَ.
والصَّدُّ والصَّرْفُ والمنعُ، يقال: صَدَّ يَصُدُّ صَدّاً؛ إذا صَرَفَ غيرَهُ عن الشيء، وصَدَّ يَصِدُّ صدوداً؛ إذا أعرضَ بنفسه. ومن قرأ (يَرْتَدِدْ) بدالين فهو لغةُ أهل الحجاز، أظهروا التضعيف حذراً من التقاءِ الساكنين، ومن قرأ (يَرْتَدَّ) بالتشديد فهو لغةُ بني تَميم أدغموا الحرفين من جنسٍ واحد وحرَّكوه إلى الفتحةِ. وقوله: { فَيَمُتْ } جزمَ بالعطف على (يَرْتَدَّ) ولو كان جواباً لكان رفعاً. وأكثرُ الأمة على أن النهيَ عن القتال في الشهر الحرام منسوخٌ؛ نسخته سورةُ براءة، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [التوبة : 29]؛ لأنَّها نزلت بعد حظرِ القتال في الشهر.
فإن قيل: إذا كان نفسُ الارتداد يُحْبطُ العمل حتى يبطل حجةَ الذي أداه، فأينَ فائدة قوله: { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ }؟ قيل: إنَّما ذكرَ الله تعالى في هذه الآية أمرَ الآخرة لا أمراً يرجع إلى إحباطِ عمله في الماضي؛ إذ المعلومُ من حال المرتدِّ أنه إذا عاد إلى الإسلامِ والتوبة والعمل الصالح وماتَ على ذلك لا يعاقبُ في الآخرة، فلما جمعَ الله في هذه الآية بيَّن إحباط عمله فيما يتصل بالدنيا والآخرة حتى يزولَ ثوابه إلى العقاب الدائمٍ، كذلك شرطَ موتَه على الكفر.
روي في التفسير: أنه لَمَّا نزلت هذه الآية قامَ عبدُالله بن جحش وأصحابه؛ فقالوا: يا رسولَ الله، أنطمعُ من ربنا أن تكون لنا هذه غزوةٌ في الجهاد، فنَزل قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }؛ معناهُ أن الذين صدَّقوا وهاجروا من مكة إلى المدينة وجاهدُوا في محاربةِ المشركين في طاعةِ الله تعالى أهلُ هذه الصفة، يُعطون مغفرةَ الله تعالى وجنَّته، { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } لِما كان منهم من القتالِ والأسرِ وأخذ الغنيمة في الشهرِ الحرامِ، { رَّحِيمٌ } بهم حين رفعَ إثم ذلك عنهم.
والْمُهَاجَرَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهَجْرِ، وفي هذا الموضع هجران الموطنِ والعشيرة في رضا الله تعالى، والهجرُ نقيض الوَصْلِ، وأطلق اللفظ في هذه الآية على المفاعلةِ، ويزادُ ما ذكرناه؛ ونظيره المساعَدة: وهي ضَمُّ الرجلِ ساعدُه إلى ساعدِ أخيه بالتقوية والمعونة. وأما المجاهَدةُ: فهي بذلُ الرجل الجهدَ من نفسه مع إخوانه، ويجوز أن يراد بذلك أنْ يبذِلَ الجهدَ في قتال عدوِّه، وقد فعلَ العدوُّ مثل فعلهِ، فيصير مفاعلةً.
وإنَّما قال اللهُ تعالى: { أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ } لأنَّ أحداً لا يعلم أنه صابرٌ إلى أنْ يبلُغَ في الطاعة كلَّ مبلَغٍ؛ إلا بخبرِ الله تعالى أو بخبرِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يدري لعله قَصَّرَ في شيء من الواجبات، وما يدري ما الذي يكون منهُ وما بينه وبين موتهِ، ولا يعلم أحدٌ من المسلمين بما يُخْتَمُ له، خَتَمَ اللهُ لَنَا بالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ.