التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٢٤٦
-البقرة

التفسير الكبير

وقوله عزَّ وَجَل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }؛ أي ألَمْ تعلم يا محمدُ بالملإ من بني إسرائيلَ. والملأُ من القوم: أشرافُهم ووجوهُهم يجتمعون للمشاورةِ. وجمعهُ الأَمْلاَءُ؛ واشتقاقهُ مِن مَلأْتُ الشيءَ؛ لا واحدَ له من لفظهِ كالإبلِ والخيلِ والجيشِ والقومِ والرهطِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { مِن بَعْدِ مُوسَىۤ } أي مِن بعدِ وفاة موسَى، وقولهُ: { إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا } اختلفُوا فيه مَن هو؟ قال قتادةُ: (هُوَ يُوشُعُ بْنُ نُونِ بْنِ افْرَاتِيْمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ). وقال السديُّ: (هُوَ شَمْعُونَ). وقد كان بعدَ يوشع، وإنما سُمي سَمعون لأن أُمَّهُ دعتِ الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقَها غُلاماً فاستجابَ الله دعاءها، فولدت غلاماً فسمَّته سَمعون، وقالت: قد سَمِعَ اللهُ دعائي، فلأجلِ ذلكَ سَمته سمعون. والسينُ في لغة العبرانية شينٌ، فهو بالعبرانيةِ شَمعون وبالعربية سَمعون. وقال الكلبيُّ ومقاتل وسائرُ المفسرين: (هُوَ إشْمُوِيلُ بْنُ هَلْقَانَا، وَبالْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ لَهُ: إسْمَاعِيْلُ بْنُ بَالِي وَهُوَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ عليه السلام).
وقال الكلبيُّ: (وَسَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ إيَّاهُ: أنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُوسَى عليه السلام خَلَفَ بَعْدَهُ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ يُوشُعُ بْنُ نُونٍ يُقِيْمُ فِيْهِمُ التَّوْرَاةَ وَأمْرَ اللهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، ثُمَّ خَلَفَ فِيْهِمْ حِزْقِيْلَ كَذَلِكَ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَعَظُمَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ الأَحْدَاثُ فَنَسُواْ عَهْدَ اللهِ تَعَالَى حَتَّى عَبَدُواْ الأَوْثَانَ، فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِمْ إلْيَاسَ عليه السلام نَبيّاً فَجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ، ثُمَّ خَلَفَ بَعْدَ إلْيَاسَ عَلَيْهِمْ الْيَسَعَ وَكَانَ فِيْهِمْ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ؛ فَعَظُمَتْ فِيْهِمْ الأَحْدَاثُ وَكَثُرَتْ فِيْهِمْ الْخَطَايَا وَظَهَرَ لَهُمْ عَدُوٌّ يُقَالُ لَهُ: البلساياء وَهُمْ قَوْمُ جَالُوتَ، وَكَانُواْ يَسْكُنُونَ سَاحِلَ الرُّومِ بَيْنَ مِصْرَ وَفِلَسْطِيْنَ؛ وَهُمْ الْعَمَالِقَةُ. فَظَهَرُواْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِنْ أرَاضِيْهِمْ وَسَبَواْ كَثِيْراً مِنْ ذرَاريْهِمْ، فَضَرَبُواْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَلَقُواْ مِنْهُمْ بَلاَءً شَدِيْداً. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَبِيٌّ يُدَبِرُ أمْرَهُمْ، فَكَانُواْ يَسْأَلُونَ اللهَ تَعَالَى أنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبيّاً يُقَاتِلُونَ مَعَهُ. وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُواْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلاَّ امْرَأَةً حُبْلَى، فَأَخَذُوهَا وَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ خِشْيَةَ أنْ تَلِدَ أُنْثَى فَتُبْدِلُهَا بغُلاَمٍ، لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إسْرَائِيْلَ فِي وَلَدِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأةُ تَدْعُو اللهَ أنْ يَرْزُقَهَا غُلاَماً، فَوَلَدَتْ غُلاَماً فَسَمَّتْهُ اشْمُوِيْلُ أيْ إسْمَاعِيْلُ. وَكَبُرَ الْغُلاَمُ فَتَعَلَّمَ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَفِلَهُ شَيْخٌ مِنْهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ أنْ يَبْعَثَهُ اللهُ نَبيّاً أتَى جِبْرِيْلُ وَالْغُلاَمُ نَائِمٌ إلَى جَنْب الشَّيْخِ، فَدَعَاهُ: يَا اشْمُويْلُ، إذْهَبْ إلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبكَ، فَإنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَكَ فِيْهِمْ. فَلَمَّا أتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُواْ: إنْ كُنْتَ صَادِقاً فَابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ).
وإنَّما سألوا الملكَ لأنَّهم علموا أنَّ كلمتَهم لا تتفقُ وأمورَهم لا تنتظمُ، ولا يحصلُ منهم الاجتماع على القتالِ إلا بمَلِكِ يحملُهم على ذلك ويجمع شَملَهم، فكان الملكُ هو الذي يجمع أمرهم والنبيُّ يشيرُ عليه ويرشدهُ ويأتيه من ربه بالخبرِ. فلما قالوا لاشمويل: ابعثْ لنا مَلِكاً نقاتلُ في سبيل الله، قال لهم: لعلَّكم إذا بعثَ الله لكم مَلِكاً وفرضَ عليكم القتالَ تَجْبُنُوا عن القتالِ فلا تقاتلوا!!
وإنَّما قال ذلك متعرّفاً ما عندهم من الحدِّ وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا }؛ ومعناه: قال لهم نبيُّهم عسى ربُّكم إنْ فرضَ عليكم القتال مع ذلك الملكِ أن لا تَفُوا بما تقولون ولا تقاتلُون معه، و{ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ }؛ "قالوا: وأيُّ شيءٍ لنا" في ترك القتالِ فِي سبيلِ اللهِ، وقيل معناه: وليس لنا أن نَمتنع عن قتالِ عدوِّنا في طلب مرضاةِ الله، { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } أي وقد أخْلَوْنَا من منازلنا وسَبَوا ذرارينا.
ومعنى الإخراجِ من الأبناء: أنه لَمَّا كان الإخراجُ من الديار يؤدِّي إلى مفارقةِ الأبناء قالوا: أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارنَا وَأبْنَائِنَا. ويجوز أن يكون على وجهِ الاتباع كما يقالُ: متقلِّدٌ سيفاً ورمحاً.
فإنْ قيلَ: ما وجهُ دخول (أنْ) في قوله { أَلاَّ نُقَاتِلَ } والعربُ ما تقول: ما لكَ أن لا تفعل كذا، وإنَّما يقولون: ما لكَ لا تفعلُ؟ قيل: دخول (أن) وجد فيها لغتان فصيحتان. فدليلُ إثباتِها قَوْلُهُ تعالى:
{ { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] و { { مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } [الحجر: 32]. ودليلُ حذفِها قَوْلُهُ تَعَالَى: { { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [الحديد: 8].
واختلفوا في قراءةِ قوله تعالى: { ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ } قرأ بعضهم (نُقَاتِلُ) بالرفع على معنى فإنَّا نقاتلُ، وأكثرهم على (نُقَاتِلْ) بالجزمِ على جواب الأمرِ. وقرأ أبو عبدالرحمن السلميّ: (يُقَاتِلْ) بالياءِ والجزم؛ جعل الفعلَ للملك، كذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا } قرأ عمرُ (وَقَدْ أخْرَجَنَا) بفتح الهمزةِ والجيم؛ يعني العدوَّ:
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }؛ فيه حذفٌ؛ معناه: فبعثَ اللهُ لهم ملِكاً وكتبَ عليهم القتال؛ { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ }؛ أي لَمَّا فرضَ عليهم أعرضوا عنه وضيَّعوا أمرَ الله عَزَّ وَجَلَّ إلا قليلاً منهم، وهم ثلاثُمائة وثلاثة عشر رجلاً؛ هم الذين عبَروا النهر، وسنذكرهم إن شاءَ اللهُ في موضعهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ }؛ أي عالِمٌ بالذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وبعقوبتهم، وفي هذا تَهديدٌ لِمن ولَّى عن القتالِ.
واختلفُوا في قراءة (عَسَيْتُمْ) فقرأ نافع وطلحة والحسن: (عَسِيْتُمُ) بكسر السين في كلِّ القرآن؛ وهي لغةٌ. وقرأ الباقون بالفتحِ؛ وهي اللغةُ الفصيحة.