التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٤٨
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ }؛ قال ابن عباس: (هذا جوابٌ عن قولِهم لنبيِّهم: واللهِ ما نصدقك أنَّ الله بعثهُ علينا، ولكنكَ أنت بعثته علينا مَلِكاً مضارَّة لنا حينَ سألناكَ مَلِكاً، وإلا فآتنا بآيةِ أن الله قد بعثهُ علينا. فقالَ لهم: { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ } أي الدلالةُ على كون طالوتَ ملكاً، أن يأتيكم التابوتُ الذي أخذَه منكم عدوُّكم. وكان ذلك التابوتُ من عودٍ الشمار الذي يتخذُ منه الأمشاطُ المرصَّعة بالذهب عليه صفائحُ الذهب، وكانت السكينةُ في التابوت؛ وهي شبهُ دابَّةٍ رأسُها كرأسِ الْهِرَّةِ ولها ذنبٌ كذنبها له رأسان، ووجهٌ كوجه الإنسان ولها جناحان من زبرجد وياقوت، وكان فيها روحٌ تكلمهم بالبيانِ فيما اختلفوا فيه، وكان لعينَيها شعاعٌ إذا نظرتْ إلى إنسانٍ ذُعِرَ).
قال ابنُ عباس: (كانت بنو إسرائيلَ إذا حضر القتال قدَّموا التابوتَ بين أيديهم إلى العدوِّ، فإذا أتَتِ السكينةُ في التابوت وسُمع من التابوت أنينُها أقربَ نحوَ العدو وهم يَمضون معه أينما مَضَى، فإذا استقرَّ ثبتُوا خلفه، وكانت السكينةُ إذا صرخت في التابوتِ بصراخ هِرَّة أيقنوا بالنصرِ وجاءهم الفتحُ، فلما عَصَتْ بنو إسرائيل الأنبياءَ صلوات الله عليهم، سلَّطَ الله عليهم عدوَّهم فقاتلهم وغلبَهم على التابوت، ومَضَوا به إلى قريةٍ من قُرى فلسطين، وجعلوه في بيتِ صَنَمٍ لهم، وجعلوا التابوت تحتَ الصنم، فأصبحوا من الغدِ والصنمُ تحته، وأصنامهم كلَّها أصبحت مكسَّرةً، فأخرجوا التابوتَ من بيتِ الصنم، ووضعوهُ في ناحيةٍ من مدينتهم، فأخذَ أهل تلك الناحيةِ وجعٌ في أعناقهم حتى هلكَ أكثرُهم، فقال بعضهم لبعض: أليسَ قد علمتُم أن إلهَ بنو إسرائيلَ لا يقومُ له شيء، فأخرجُوا التابوتَ إلى قريةٍ أخرى، فبعثَ اللهُ على أهل تلك القريةِ بلاءً حتى كان الرجلُ منهم يبيتُ سالِماً ويصبحُ ميتاً قد أُكِلَ ما في جوفه، فأخرجوهُ منها إلى الصحراء ودفنوهُ في مَخْرَاةٍ لهم، فكان كل من تغوَّط هنالك منهم أخذه الباسورُ والقولنج، فتحيَّروا! فقالت لهم امرأةٌ من بني إسرائيل كانت عندهم قد سَبَوها: اعلموا أنكم لا تزالون ترون ما تكرهون ما دامَ التابوتُ فيكم فأخرجوه عنكم، فأتوا بعَجَلٍ بإشارة تلك المرأةِ فحملوا عليها التابوتَ، ثم علَّقوها على ثورين ثم ضربُوا جنوبَها فأقبل الثوران يسيران، ووكَّلَ اللهُ أربعةً من الملائكةِ يسوقون الثورين، فلم يَمر التابوت بشيء من الأرض إلاَّ كان مُقدَّساً، فأقبلاَ حتى وقعَا على أرض بني إسرائيل فوضعُوا التابوت في أرضِ بني إسرائيل، فلما رَأى بنو إسرائيلَ التابوتَ كبَّروا وحمدوا اللهَ وأطاعوا طالوتَ وأقروا بُملْكِهِ، فذلكَ قولهُ: { تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } أي تَسُوقُهُ). وقال ابنُ عباس: (جَاءَتِ الْمَلاَئِكَةُ بالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ طَالُوتَ).
وقرأ ابنُ مسعود ومجاهد والأعمش: (يَحْمِلُهُ) بالياءِ. وعن علي رضي الله عنه: (أنَّ السَّكِيْنَةَ كَانَ ريْحاً هَفَّافَةً لََهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الإنْسَانِ).
وقوله تعالى: { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } يعني أنهُ كان في التابوتِ أيضاً رُضَاضُ الألواحِ لموسى وعصاهُ من آسٍ وعمامةُ هارون وقفيزةٌ من الْمَنِّ وهو التَّرْنَجَبينُ الذي كان لبنِي إسرائيلَ في طِسْتٍ من ذهبٍ. وقوله تعالى: { تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } أي تسوقهُ الملائكة. وقال بعضهم: أرسلَ الله ريحاً انتزعت التابوتَ من أيدي الكفَّار، ثم حملتهُ الملائكة فألقته بين يَدَي طالوتَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ }؛ أي إن في رجوعِ التابوت إليكم لعلامةً أن الله ملَّك عليكم طالوتَ، { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ }؛ أي مصدِّقين بذلك.