التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٨٢
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ }؛ قال ابنُ عباس: (لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا أبَاحَ السَّلَمَ) وَظَاهِرُ الآيَةِ عَلَى كُلِّ دَيْنٍ مِنْ سَلَمٍ وَغَيْرِهِ. ومعنى الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا } تبايعتم بالنَّسيئةِ إلى وقتٍ معلوم فاكتبُوا الدَّين بأجلهِ وأشْهِدُوا عليه كَيْلا تحدِّث نفسُ أحدِكم بالطمعِ في حقِّ صاحبه، ولا يقعُ شكٌّ في مقدارهِ، ولا جحودٌ ولا نسيانٌ. والدَّين: ما كانَ مؤجَّلاً، والعينُ: ما كان حَاضِراً.
واختلفُوا في هذه الكتابةِ أنَّها فَرْضٌ أو ندبٌ؟ فذهبَ أبو سعيدٍ الخدري والحسنُ والشعبيُّ: (أنَّ الْكِتَابَةَ والإشْهَادَ عَلَى الدُّيُونِ الآجِلَةِ كَانَا وَاجِبَيْنِ بِهَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَا بقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } [البقرة: 283]. وقال ابنُ عباس: (لاَ وَاللهِ، إنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ مَا فِيْهَا نَسْخٌ). وهو قولُ الربيعِ وكعبٍ، وهذا هو الأصحُّ؛ لأن الأمرَ بالكتابةِ والإشهادِ إنَّما وردَ مقروناً بقولهِ: { { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } [البقرة: 283]، ويستحيلُ ورودُ الناسخِ والمنسوخِ معاً في شيءٍ واحد، فكأنَّ المرادَ بالأمرِ الندبُ.
والفائدةُ في قوله: { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } بيانُ إعلامِ وجوب الأجلِ؛ فإن جهالةَ الأجلِ في الْمُبَاعَاتِ تفسدُها. وقال بعضُهم: إن الكتابةَ فرضٌ واجبٌ.
وقال ابن جُريج: (مَنْ أدَانَ دَيْناً فَلْيَكْتُبْ، وَمَنْ بَاعَ فَلْيُشْهِدْ). يدلُّ عليه ما رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"ثَلاَثَةٌ يَدْعُونَ اللهَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَلَمْ يُشْهِدْ، وَرَجُلٌ أعْطَى سَفِيْهاً مَالاً وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ }، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأةُ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا" .
وقال قومٌ: هو مستحبٌ؛ وإن كتَبَ فحسنٌ وإن تركَ فلا بأسَ، كقولهِ تعالى: { { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [المائدة: 2] وقولهِ تعالى: { { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ } [الجمعة: 10].
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ }؛ قرأ الحسنُ: (وَلِيَكْتُبْ) بكسرِ اللام وهذه لامُ الأمرِ، وهي إذا كانت مفردةً "سُكِّنَتْ" طلباً للخفَّةِ، ومنهم من يكسِرُها فليس فيها إلا الحركةُ، وإذا كان قبلَها (واو) أو (فاء) أو (ثُمَّ) فأكثرُ العرب على تسكينِها طلباً للخفَّةِ. ومنهم من يكسِرُها على الأصلِ.
ومعنى هذه الآيةِ: وَلْيَكْتُبْ كاتبٌ بين البائعِ والمشتري؛ والطالب والمطلوب بالحقِّ والإنصافِ، فلا يزادُ فيه ولا ينقصُ منه، ولا يقدِّمُ الأجلَ ولا يؤخِّرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ }؛ أي لا يَمْتَنِعُ أن يكتبَ كما ألْهَمَهُ اللهُ شُكراً لِما أنعمَ عليه حيث علَّمهُ الكتابةَ وأحوجَ غيرهُ إليهِ؛ { فَلْيَكْتُبْ }.
واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتِب؛ والشهادةِ على الشاهدِ؛ فقال مجاهدُ والربيع: (وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِب أنْ يَكْتُبَ). وقال الحسنُ: (ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ فِيْهِ عَلَى كَاتِبٍ غَيْرِهِ، فَيَضُرُّ بصَاحِب الدَّيْنِ إنِ امْتَنَعَ، فَإنَّ الْكِتَابَةَ حِيْنَئِذٍ عَلَيْهِ فَرِيْضَةٌ. وَإنْ قَدَرَ عَلَى كَاتِبٍ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ إذَا قَامَ بهِ غَيْرُهُ). وقال الضحَّاك: (هَذَا "كَانَ" وَاجِباً، فَنَسَخَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }. وقال السديُّ: (هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ فَرَاغِهِ). وقال الشعبيُّ: (هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كالْجِهَادِ). والصحيحُ: أن الكتابةَ غَيرُ واجبةٍ في الأصلِ على الْمُتَدَاينَيْنِ، فإذا لم تكن واجبةً عليهم؛ فكيفَ تكونُ واجبةً على الأجنبي الذي لا حُكْمَ له في هذا العقدِ ولا سببَ؟!
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً }؛ يعني الْمَدْيُونَ المطلوبَ يُقِرُّ على نفسهِ بلسانهِ لِيُعْلِمَ ما عليهِ ويُملي على الكاتب. والإمْلاَلُ والإمْلاَءُ: بمعنى واحدٍ؛ وهما لُغتان فصيحتان جاء بهما القرآنُ. ثم خَوَّفَهُ اللهُ تعالى فقالَ: { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } أي وَلْيَخْشَ اللهَ ولا يُنْقِصُ من الحقِّ الذي عليهِ شيئاً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ }؛ أي فإن كان المطلوبُ الذي عليه المالُ سفيهاً أو ضعيفاً؛ أي خفيفَ العقلِ جاهلاً بالإملاء؛ لا يُمَيِّزُ تَمييزاً صحيحاً، قالهُ مجاهدُ. وقال السديُّ: (يَعْنِي عَاجِزاً لاَ يَسْتَطِيْعُ أنْ يُمِلَّ لِعُجْمَةٍ أوْ زَمَانَةٍ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: { ضَعِيفاً } أي ضَعِيفاً في العقلِ مثلَ الصبيِّ والمرأةِ أو شيخاً كبيرَ السنِّ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } يعني لِمَرَضٍ أو خَرَسٍ أو حَبْسٍ لا يُمكِّنهُ حضورَ الكتاب أو يجهلُ ما لهُ وعليهِ. قولهُ: { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } أي وَلِيُّهُ الذي يقومُ بأمرهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { بِٱلْعَدْلِ } أي بالحقِّ. وقال ابنُ عباس والربيعُ ومقاتل: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّ الْحَقِّ) وهو صاحبُ الدَّين؛ لأنه أعلمُ بدَينه يُملُّ بالعدلِ والصدقِ والحق والإنصافِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } يعني أشْهِدُواْ على الحقِّ شهيدين من الأحرار البالغينَ دون الكفار والعبيدِ والصبيانِ، وهذا مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفة والشافعيِّ وسفيانَ وأكثرِ الفقهاءِ. وأجازَ شُريح وابن سيرين شهادةَ العبيد، وأجازَ بعضُهم شهادتَهم في الشيءِ التافه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ }؛ الآيةُ، أي فإن لم يُكنِ الشاهدان رجلَين فليكن رجلٌ وامرأتَان. قولهُ: { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ }؛ أي مِمَّنْ ترضون عدالتَه وأمانتَه. وَالْمَرْضِيُّ: مَن يجتمعُ فيه ثلاثةُ أشياء:
أحدُها: العدالةُ، وأصلُها الإيْمان واجتنابُ الكبائر ومراعاةُ حقوق الله من الواجباتِ والمسنوناتِ وَصِدْقُ "الْحَدِيْثِ" وأداءُ الأمانة.
والثاني: نَفْيُ التهمةِ؛ نحو أن لا يكونَ المشهودَ له ولداً ولا والداً ولا زوجةً ولا زوجاً، فإن شهادةَ هؤلاء غيرُ مقبولة لِما ذكرنا، وإن كانوا عُدُولاً مَرْضِيِّيْنَ.
الثالثُ: التيقُّظُ وقلةُ الغفلة وأن لا يكون كثيرَ الغلطِ.
قال النخعيُّ: (الرَّجُلُ الْعَدْلُ: هُوَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيْهِ ريْبَةٌ. وقال الشعبيُّ: (هُوَ مَنْ لاَ يُطْعَنُ عَلَيْهِ فِي بَطْنٍ وَلاَ فَرْجٍ). وقال الحسنُ: (هُوَ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ خِيَانَةً).
وقالَ صلى الله عليه وسلم:
"لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ؛ وَلاَ مَجْلُودٍ؛ وَلاَ ذِي حِقْدٍ عَلَى أخِيْهِ؛ وَلاَ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ؛ وَلاَ الْخَادِمَ مَعَ أهْلِ الْبَيْتِ" . وعنِ ابن عباسٍ قال: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشَّهَادَةِ؟ فَقَالَ: أتَرَى هَذِهِ الشَّمْسَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أوْ دَعْ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ }؛ معناهُ: أن تُذَكِّرَ الذاكرةُ الناسيةَ إن نَسِيَتْ، ومعنى تَضِلَّ: تَنْسَى، كقولهِ تعالى: { { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } [الشعراء: 20]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { فَتُذَكِّرَ } معطوفٌ على { تَضِلَّ }. وقرأ الأعمشُ: (إنْ تَضِلَّ) بكسرِ الهمزة (فَتُذَكِّرُ) بالرفعِ. ومعناهُ: الخبرُ أو الابتداءُ. وموضع { تَضِلَّ } جُزِمَ بالجزاءِ، إلا أنَّهُ لا تَبيْنُ فيه للتضعيفِ، (فَتُذَكِّرُ) رَفْعاً؛ لأن ما بعدَ (فاء) الخبرِ مبتدأ. وقيل في تفسيرِ الآية: إنِ امتنعتْ إحدى المرأتين عن أداءِ الشهادة تَعِظُهَا الأخرى حتى تَشْهَدَ.
ومَنْ قرأ (فَتَذْكُرَ) بالتخفيفِ فالإِذكارُ والتذكيرُ بمعنى واحد. وقيل في معنى التحقيقِ: تجعلُها ذِكراً؛ أي يقومان مقامَ رجلٍ. قرأ زيدُ بن أسلم: (فَتُذَاكِرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى) من المذاكرةِ. وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو ويعقوبُ: (فَتَذْكُرَ) بالتخفيفِ. وقرأ الباقون (فَتُذَكِّرَ) بالتشديدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ }؛ أي لا يَمتنعوا إذا دُعُوا إلى إقامةِ الشهادة عند الحكَّام، وهذا قولُ مجاهدٍ وعطاءٍ وعكرمةَ وابن جبير والضحاكِ والسديِّ. وقال بعضُهم: هذا في تحمُّل الشهادةِ؛ وهو أمرُ إيجابٍ أيضاً.
قال قتادةُ: (كَانَ الرَّجُلُ يَطُوفُ فِي الْحَيِّ الْعَظِيْمِ فِيْهِ الْقَوْمُ؛ فَيَدْعُوهُمْ إلَى الشَّهَادَةِ؛ فَلاَ يَتْبَعُهُ أحَدٌ مِنْهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقال الشعبيُّ: (هُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ، فَإذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَمُّلُ). وقال بعضُهم: هذا أمرُ ندبٍ؛ وهو مخيَّر في جميع الأحوالِ، وهو قولُ عطاء. وقال المغيرةُ: (قُلْتُ لإبْرَاهِيْمَ: إنِّي أُدْعَى إلَى الشَّهَادَةِ؛ وَإنِّي أخَافُ أنْ أنْسَى، قَالَ: فَلاَ تَحْمِلْ إنْ شِئْتَ). وقال الحسنُ: (هَذِهِ الآيَةُ فِي التَّحَمُّلِ وَالإقَامَةِ إذا كَانَ فَارغاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ }؛ أي لا تَمَلُّوا أن تكتبوا الحقَّ قليلاً كان أو كثيراً إلى محِله، يقالُ: سَأَمْتُ أسْأَمُ سَئَامَةً؛ إذا ملَلْتُ، قال زهيرُ:

سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ثَمَانِيْنَ حَوْلاً لاَ أبَا لَكَ يَسْأَمِ

وقال لَبيْدُ:

وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا وَسُؤَالِ هَذا النَّاسِ كَيْفَ لَبيْدُ؟

و (أنْ) في موضعِ نصبٍ من وجهين؛ إن شئتَ جعلتهُ مع الفعلِ مصدراً؛ وأوقعت السَّئَامَةَ عليهِ؛ تقديرهُ: ولا تَسْأَمُواْ كِتَابَتَهُ. وإن شئتَ نصبهُ بنَزع الخافضِ، و(الهاء) راجعةٌ إلى الحقِّ؛ أي ولا تَسْأَمُوا مِن أنْ تكتبوهُ.
وقرأ السلمي: (وَلاَ يَسْأَمُواْ) بالياءِ، وقوله تعالى: { صَغِيراً أَو كَبِيراً } انتصبَ من وجهين؛ أحدُهما: على الحالِ من الهاءِ. والثانِي: أن يجعلَه خبراً لـ (كَانَ) المحذوفةِ؛ تقديرهُ: صغيراً كانَ الحقُّ أو كبيراً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ } أي الكتابُ أعْدَلُ عند الله وأحصَى للأجلِ وأحفظُ للشهادة وأقربُ أن لا يشُكُّوا في مقدار الحق ومقدار الأجل. وفي هذا دليلٌ أنه لا يجوزُ إقامةُ الشهادة إلا مع زوالِ الريب، كما روي عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"إذَا رَأيْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإلاَّ فَدَعْ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ }؛ قرأ عاصمٌ (تِجَارَةً) بالنصب على خبرِ كانَ. وأضمرَ اسْمَها؛ تقديرهُ: إلا أن تكونَ المداينةُ تجارةً أو المبايعةُ تجارةً. وقرأ الباقون بالرفعِ لوجهين؛ أحدُهما: أن يكونَ الكَوْنُ بمعنى الوقوعِ؛ تقديرهُ: إلا أن تكونَ تجارةٌ؛ فحينئذٍ لا خبرَ لهُ، والثاني: أن تُجعل تجارةً اسمَ يكونُ، والخبر (تُدِيْرُونَهَا)؛ تقديرهُ: إلا أن تكونَ تجارةٌ حاضرةً دائرةٌ بينكم.
ومعنى الآيةِ: إلاَّ أن تقعَ تجارةٌ حالَّة يداً بيدٍ، { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا }؛ في تركِ الكتابةِ في تلك التجارةِ؛ لأنهُ ليس فيه أجلٌ ولا نسيئة، وهذا تَوْسِعَةٌ من الله للعبادِ كيلا يُضَيِّقَ عليهم أمرَ بيعاتِهم في المأكولِ والمشروب والأشياء التي تَمُسُّ حاجتهم إليها في أكثرِ الأوقات. ويَشُقُّ عليهم كتابةُ جميعها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ }؛ أي أشْهِدُوا على حقوقكم إذا بعْتُمْ واشتريتم، وهذا محمولٌ على البياعاتِ النفيسة، فأما القدرُ اليسير الذي ليسَ في العادةِ التوثيق بالإشهاد فيه نحوُ شراء الخبزِ والبقلِ وما جرى مَجْراه؛ فغيرُ داخل في هذا الخطاب.
قال الضحَّاك: (قَوْلُهُ: { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } هَذَا الإشْهَادُ وَاجِبٌ فِي صَغِيْرِ الْحَقِّ وَكَبيْرِهِ؛ وَنَقْدِهِ وَنَسِيْئَتِهِ ولَوْ كَانَ عَلَى تَافِهٍ). وقال آخرون: هو أمرُ ندبٍ؛ إن شاءَ أشهدَ وإن شاء لم يشهِدْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }؛ يحتملُ وجهين؛ أحدُهما: لا يُضَارَّ الكاتبُ ولا الشاهدُ الطالبُ والمطلوب؛ يعني لا يكتبُ الكاتبُ إلا بالحقِّ، ولا يشهدُ الشاهد إلا بالحقِّ. تقديرهُ: لا يُضَارَرُ على النهيِ. والثاني: على اسمِ ما لم يسمَّ فاعلهُ؛ أي لا يُدعى الكاتبُ وهو مشغولٌ لا يُمكنه ترك شغلهِ إلا بضررٍ يدخل عليه، وكذلك لا يُدْعَى الشاهدُ ومجيئه يضُرُّ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }؛ أي لا تقصدوا الْمُضَارَّةَ بعد نَهي الله تعالى عنها، فإنهُ إثْمٌ وخروجٌ من أمرِ الله. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ }؛ أي { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في الضِّرَار ولا تعصُوه فيما أمركم به، { وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ } ما به قَوَامُ دِينكم ودُنياكم، { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ }؛ من أعمالِكم، { عَلِيمٌ }؛ يعلم ما تعملونَ في الكتابةِ والشهادةِ.