التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ }؛ وذلك أنِّهم وَحَمُوا الْمَنَّ والسَّلوى وملُّوهما. قال الحسنُ: كَانُواْ أُنَاساً أهْلَ كُرَاشٍ؛ كُرَّاثٍ؛ وَأبْصَالٍ؛ وَأعْدَاسٍ؛ فَفَزِعُواْ إلَى عِكْرِهِمْ عِكْرَ السُّوءِ؛ وَاشْتَاقَتْ طَبَائِعُهُمْ إلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَاتُهُمْ؛ فقالوا: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } يعنون به المنَّ والسلوى. وإنما قال: { طَعَامٍ وَاحِدٍ } وهما اثنان؛ لأن العربَ تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد؛ وعن الواحد بلفظ الاثنين؛ كقولهِ تعالى: { { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] وإنما يخرجُ من الملح دون العَذْب. وقال عبدُالرحمن بن يزيد: (كَانُواْ يَعْجِنُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لِيَصِيْرَ طَعَاماً وَاحِداً فَيَأْكُلُونَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالىَ: { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا }، قرأ يحيى بن وثَّاب وطلحة بن مصرف: (وَقُثَائِهَا) بضم القاف، وهي لغة تميم. قوله تعالى { وَفُومِهَا }؛ قال ابن عباس: (الْفُومُ: الْخُبْزُ) تَقُولُ الْعَرَبُ: فُومُو لَنَا؛ أيِ اخْبِزُواْ لَنَا. وَيُقَالُ لِسَائِرِ الْحُبُوب الَّتِي تُخْتَبَزُ: الْفُومُ. يقول الرجلُ لجاريته: فُومي؛ أي اختبزي. وقال عطاء: هِيَ الْحِنْطَةُ؛ وهي لغةٌ قديمة. وقال الكلبي: هُوَ الثُّومُ. قال حسَّان:

وَأنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ

يريد: الثومَ والبصل. والعربُ تعاقب بين الفاء والثاءِ. فتقول للحقيرِ: حدثُ وحدفُ؛ ودليل هذا التأويل أنَّها في مصحف عبدالله: (وَثُومِهَا) بالثاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا }؛ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"عَلَيْكُمْ بالْعَدَسِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ مُقَدَّسٌ؛ وَإنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الدَّمْعَ، وَإنَّهُ بَارَكَ فِيْهِ سَبْعُونَ نَبيّاً آخِرُهُمْ عِيْسَى عليه السلام" . فَقَالَ لَهم موسَى: { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ }. وفي مصحف أُبَيّ: (أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أدْنَى) أي أخَسُّ وأرْدَى (بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يعني المنَّ والسَّلوى. وقولهُ تعالَى: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }؛ معناه إنْ أبَيْتُمْ إلا ذلك فاهبطوا مصراً من الأمصار؛ ولو أراد مصراً بعينها لم يصرفه كقوله تعالى: { { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [يوسف: 99]. وقال الضحَّاك: (هِيَ مِصْرُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ). ودليلُ هذا القول قراءةُ الحسن وطلحة: (مِصْرَ) بغيرِ تنوينٍ جعلاَها معرفةً؛ فاجتمع فيها التعريفُ والتأنيثُ من حيث أراد البقعةَ فلم ينصرف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ }؛ أي الذلُّ والهوانُ بالجزيةِ، { وَٱلْمَسْكَنَةُ }؛ أي زيُّ الفقر فتراهم كأَنَّهم فقراء وإن كانوا مياسير. وقيل: فُقرَاءُ القَبَلِ فلا يُرَى في أهلِ الملل أذلَّ ولا أحرصَ على المالِ من اليَهُودِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }؛ أي رجعوا؛ وقيل: استحقُّوا، والباء صلةٌ. وقيل: احتمَلُوا واقروا به، ومنهُ الدعاء المأثور: [أبُوءُ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ؛ وَأبُوءُ بذَنْبي]. وغضبُ الله عليهم: ذَمُّهُ إياهم وتوعُّده لهم في الدنيا، وإنزالُ العقوبة بهم العقبى. قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ }؛ أي ذلك الغضبُ؛ { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ }؛ أي بصفة مُحَمَّدٍ وآية الرجمِ في التوراة والإنجيل والفُرْقَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }؛ قرأ السلمي: (وَيُقَتِّلُونَ) بالتشديد؛ و(النَّبيِّينَ) في جميع القُرْآنِ بالتشديدِ من غيرِ همزةٍ، وتفرَّدَ نافع بهمزِ (النَّبيْئِيْنَ) فمن هَمَزَ فمعناهُ: الْمُخْبرُ؛ من قولِ العرب: أنْبَأَ يُنْبئُ إِنْبَاءً، ومَن حذفَ الهمزة؛ فإنه أرادهُ، لكن حَذْفُهُ الهمزةَ طلباً للخَفَّة؛ لكثرةِ استعمالها. وَقَِيْلَ: لأنه بمعنى الرَّفيعِ مأخوذ من النبوَّة وهي المكانُ المرتفع. قال: نَبَا الشيءُ بغيرِ همزٍ إذا ارتفعَ.
وقولهُ تعالى: { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أي بلا جُرمٍ مثل زكريَّا ويحيى وسائر من قتلَ اليهودُ من الأنبياءِ. وفي الخبرِ:
"أنَّ اليهودَ قتلوا سبعين نبيّاً في أوَّل النهار، وقامت سُوقُ بَقْلِهِمْ في آخر النهار. وقيل: قتلُوا في يومٍ واحد ثلاثَمائة نبيٍّ" . قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }؛ أي يتجاوزون أمْرِي ويرتكبون مَحارمي.