التفاسير

< >
عرض

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ
٨٤
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ
٨٥
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٦
-الأنبياء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }؛ أي دَخَلَ الضرُّ في جسدِي، { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }؛ بالعبادِ، فكان هذا تَعْرِيْضاً منهُ بالدعاءِ لله لإزالة ما بهِ من الضُّرِّ، { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } دعاءَهُ، { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ }؛ وقولهُ تعالى: { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ }؛ قال ابنُ مسعود وقتادة والحسنُ: (أحْيَا اللهُ لَهُ أوْلاَدَهُ الَّذِيْنَ هَلَكُوا فِي الدُّنْيَا بأَعْيَانِهِمْ وَرَدَدْنَا لَهُ مِثْلَهُمْ).
ويقالُ: أبْدَلَهُ اللهُ بكلِّ شيء ذهبَ عنه ضِعْفَ، وعن ابنِ عبَّاس قال:
"سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } فقالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، رَدَّ اللهُ امْرَأتَهُ وَزَادَ فِي شَبَابهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِيْنَ ذكَراً" . قَوْلُهُ تَعَالَى: { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا }؛ أي فَعَلْنَا ذلك به رحمةً من عندنا، { وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ }؛ أي وموعظةً للمطيعين.
قال وهبُ بن مَنبه: (كان أيوبُ عليه السلام رجلاً من الرُّوم من ذريَّة اسحاق بن إبراهيمَ وكانت أمُّهُ من ولدِ لُوطٍ، وكان اللهُ قد اصطفاهُ وبناه وبسطَ عليه الدُّنيا، وآتاهُ من أصناف المال من البقرِ والإبل والغنم والخيل والْحُمُرِ ما لا يؤتيهِ أحداً، وكان قد أعطاهُ الله أهلاً ووَلداً من رجالٍ ونساء، وكان له خمسمائة عبدٍ، لكلِّ عبدٍ امرأةٌ وولد ومال.
وكان أيوبُ عليه السلام بَرّاً تَقِيّاً رحيماً بالمساكين، يُكْرِمُ الأراملَ والأيتام ويَكْفُلُهُمْ، ويُكْرِمُ الضيفَ، وكان شَاكراً لأنْعُمِ اللهِ، مؤدِّياً لحقِّ الله، قد امتنعَ من عدوِّ الله إبليسَ أن يصيبَ منه ما يصيبُ من أهلِ الغِنَى من الفتنةِ والغفلة والشَّهوة والتشاغُلِ عن أمر الله بما هو فيه من الدُّنيا، وكان كثيرَ الذكرِ لله تعالى مجتهداً في العبادةِ، وكان إبليسُ لا يُحْجَبُ عن شيءٍ من السَّماوات.
ومن هنا وصلَ إلى آدمَ عليه السلام حين أخرجَهُ من الجنةِ، فلم يزلْ على ذلك يصعدُ في السَّماوات حتى رفعَ اللهُ عيسى عليه السلام فحُجِبَ من أربعٍ، وكان يصعدُ في الثلاثِ، فلمَّا بعثَ الله مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم حُجِبَ من الثلاثِ الباقيات، فهو وجنودهُ مَحْجُوبُونَ من جميعِ السماوات إلى يوم القيامةِ إلاّ مَن اسْتَرَقَ فأتبعهُ شهابٌ ثاقب.
فلما كان إبليسُ في زمان أيوبَ يصعدُ إلى السَّماء، سَمِعَ تحاديثَ الملائكة بصلاة أيوبَ، وذلك حين ذكَرَهُ اللهُ وأثنى عليهِ، فأدركَهُ الحسدُ بأيوب، فصعدَ سريعاً حتى وَقَفَ مِن السماوات موقفاً كان يَقْفُهُ، وقال: إلَهي؛ عبدُكَ أيوبُ قد أنعمتَ عليه فشكركَ، وعَافَيتَهُ فَحَمِدَكَ، ولَم تُجَرِّبْهُ بشدَّة ولا بلاءٍ، وأنا لك زعيمٌ لَئِنْ جرَّبتَهُ بالبلاءِ ليَكْفُرَنَّ بكَ.
فقالَ اللهُ تعالى: انطلق؛ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ على مالهِ، فانقضَّ إبليسُ حتى وقعَ على الأرضِ وجَمَعَ عفاريتَ الجنِّ وقال لَهم: ماذا عندَكُم من القوَّة؟ فإنِّي قد سُلِّطْتُ على مالِ أيُّوبَ، وهي المصيبةُ الكبرى والفتنةُ التي لا تَصْبرُ عليها الرجالُ، فقال عفريتٌ من الجنِّ: أعطيتُ من القوةِ ما إذا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إعصاراً من النار، وأحرقتُ كلَّ شيءٍ أتى عليه، فقال لهُ ابليسُ: إذهب إلَى الإبلِ ورُعاتِها، فذهب إلى الإبلِ فوجدَها في المرعى، فلم يشعُرِ الناسُ حتى ثارَ إعصارٌ تنفخُ منه السَّموم، لا يدنو منهُ أحدٌ إلاّ احترقَ، فلم يزل يُحرِقُها ورعاتَها حتى أتى على آخرِها.
فلمَّا فَرَغَ منها تَمَثَّلَ إبليسُ على قعودٍ منها كَرَاعِيْهَا، وانطلقَ إلى أيوبَ فوجده قائماً يصَلِّي، فقال: يا أيوبُ؛ هل تدري ما صَنَعَ ربُّكَ الذي اخترتَهُ وعبدته بإبلِكَ ورُعاتِها؟ فقال أيوبُ: إنَّها مالهُ أعارَنِيَها وهو أولَى به منِّي إذا شاءَ نَزَعَهُ، وقد وَطِئْتُ نفسي ومالِي على أنَّهما للفناءِ.
فقال إبليسُ: إن رَبَّكَ أرسلَ عليها ناراً فاحترقت هي ورعاتُها، فصارت الناسُ مبهوتون يتعجَّبون منهم، ويقولون: لو كان إلَهُ أيوبَ يقدرُ على أن يصنعَ شيئاً لَمَنَعَ عن إبلِ وليِّه، وقومٌ منهم يقولون: بل إلَهُ أيوبَ هو الذي فَعَلَ ذلك، أشْمَتَ به عدوَّهُ وتجمع به صَدِيْقَهُ.
فقالَ أيوبُ: الحمدُ لله على ما قَضَى اللهُ وقَدَّرَ، ولو عِلَمَ اللهُ منك أيُّها العبدُ خيراً لَتَقَبَّلَ روحَكَ مع تلك الأرواحِ، فَيَأْجُرُنِي اللهُ فيك وتَموتُ شهيداً، ولكنه عَلِمَ منك شَرّاً فَأْخَّرَكَ وخلَّصكَ.
فرجعَ إبليسُ إلى أصحابهِ خَاسِئاً ذليلاً، فقال لَهم: ماذا عندَكم من القوَّة؟ إنِّي لَم أُخْرِجَ قَلْبَهُ، فقال عفريتٌ: عندي من القوَّة ما إذا شئتُ ضجت صوتاً ما سَمعه ذو روحٍ إلاّ خرجت روحهُ، فقال إبليسُ: إذهب إلى الغَنَمِ ورعاتِها، فانطلَقَ إليهم، فلما تَوَسَّطَ الغنمَ والرُّعاةَ صاح صوتاً فماتوا جميعاً.
ثُم خرجَ إبليسُ متمثِّلاً براعٍ من رعاتِها إلى أيوبَ فأخبرَهُ بذلك، فحمدَ الله وقال لهُ مِثْلَ ما قال في المرَّة الأُولى، فرجعَ إبليسُ إلى أصحابهِ ذليلاً خاسئاً وأمَرَهُمْ إلى أصحاب الحرث والزُّروعِ فأهلَكُوهم. وكان أيوبُ عليه السلام كلَّما انتهى إليه هلاكُ مالٍ من ماله حَمَدَ الله وأثنَى عليهِ ورَضِيَ بالقضاءِ، وألزمَ نَفْسَهُ الصبرَ على البلاءِ حتى لَم يبق له مالٌ.
فلما رأى إبليسُ أم مَالَهُ قد فَنِيَ، وأنه لَم يُصِبْ منه حاجتَهُ صَعَدَ إلى السماءِ وقالَ: يا رب؛ إن أيوبَ يرى أنك ما أهلكتَ مِن ماله أخلَفْتَهُ عليهِ، فهل أنتَ مُسَلِّطُنِي على أولادهِ؟ فإنَّها الفتنةُ الْمُضِلَّةُ والمصيبةُ التي لا يقومُ لَها قلوبُ الرجالِ، ولا يقوَى عليها صبرُهم، فَسَلَّطَهُ اللهُ على ذلك.
فانقضَّ إبليسُ حتى جاء إلى أولادِ أيوبَ وهم في قصورِهم، فلم يزل يُزَلْزِلُهُ بهم حتى تَدَاعَى من قواعدهِ، ثم جعل يَرْقَبُهُمْ بالخشب والحجارة حتى مَثَّلَ بهم كلَّ مُثْلَةٍ، ثُم ذهبَ إبليسُ إلى أيوبَ متمثِّلاً بالمعَلِّم الذي كان يعلِّمُهم الحكمةَ وهو مجروحٌ يسيلُ دَمُهُ ودماغه، فأخبرَهُ بذلكَ، فقال لهُ: يا أيوبُ؛ لو رأيتَ بَنِيْكَ كيف حالُهم، منكَّسِين على رؤوسهم يسيلُ دماغُهم من أُنوفهم، ولو رأيتَ كيف شُقِقَتْ بطونَهم، وتناثرت أمعاؤُهم لَتَقَطَّعَ قلبُكَ عليهم، ولَم يزل يردِّدُ هذا القولَ حتى رَقَّ قلبهُ وبكى، فقبضَ قبضةً من التراب ووضعه على رأسهِ، فَاغْتَنَمَ إبليسُ ذلك وصَعَدَ سريعاً بالذي كان مِن جَزَعِ أيوبَ، ثُم لَم يلبث أيوبُ أنْ نَدِمَ على ذلكَ واستغفرَ رَبَّهُ، فصعدتِ الملائكةُ بتوبته فسَبَقُوا إبليسَ.
فوقفَ إبليسُ خَازياً ذلِيْلاً، وقال: إلَهي هل أنتَ مُسَلِّطُنِي على جسدهِ فإنِّي زعيمٌ لكَ إن سَلَّطْتَنِي عليه لَيَكْفُرَنَّ بكَ، فقال اللهُ تعالى: قد سَلَّطْتُكَ على جسدهِ، ولكن ليس لك سلطانٌ على لسانهِ ولا على قلبه، ولَمْ يُسَلِّطْهُ اللهُ عليه إلاّ ليُعظِمَ له الثوابَ، ويجعله عبرةً للصابرين، وذكرى للعابدين؛ ليقتَدوا به في الصبرِ.
فانقضَّ إبليسُ سريعاً فوجدَ أيوب سَاجِداً، فأتاهُ من قِبَلِ الأرضِ في وجهه، فنفخَ في مِنْخَرَيْهِ نفخةً اشتعلَ منها جسدهُ، فذهَلَ وخرجَ به من قَرْنِهِ إلى قدمهِ مثل ثَآئِيلَ ووقعت عليه حَكَّةٌ لا يَملكُها، فَحَكَّ بأظفارِ حتى سقطت كلُّها، ثم حَكَّهَا بالفخَّارِ والحجارة، فلم يَزَلْ يَحُكُّهَا حتى نَزَلَ لحمهُ وتقطَّعَ وتغيَّر وَانْتَنَّ، فأخرجَهُ أهلُ القرية، وجعلوه على كِنَاسَةٍ، واعتزله جميعُ الناس إلاّ امرأتَهُ (رَحْمَةُ بنتُ إفرائيم بن يوسفِ بن يعقوب) فإنَّها كانت تتخلَّفُ إليه بما يصلحهُ ويلزمه.
فلما طالَ عليه البلاءُ، وتَمادى عليه الضُّرُّ، ورفضه جميعُ الناسِ حتى أهلَ دِيْنِهِ تركوهُ ولَم يتركوا دينَهُ، فأقبلَ على الدُّعاء متضرِّعاً، وقال: إلَهِي؛ لأيِّ شيءٍ خلقتني؟ ليتَكَ لَم تخلقني، بل ليتنِي كنتُ حيضةً ألقتني أُمِّي، فلو كنتَ أمتَّنِي كان أجملَ بي، إلَهي أنا عبدٌ ذليل، إنْ أحسنتَ إلَيَّ فَالْمَنُّ لَكَ، وإن عاقبتَني فبيدكَ عُقوبَتي، جعلتَني للبلاءِ غَرَضاً وللفتنةِ نَصباً، وقد وقعَ بي بلاءً لو سَلَّطْتَهُ على جبلٍ أضعفَ عن حملهِ، فكيف يحملهُ ضعفي؟
إلَهي تقطَّعت أصابعي فإنِّي لا أقدرُ أحمل اللقمةَ بيدي، إلَهي تساقطت لَهَواتِي ولحمُ رأسي، وما يرادُ بي، وسالَ دِماغي من فمي، وتساقط شعرُ عيني، وكانَّما أُحْرِقَ وجهي، فحدقتايَ متدلِّيتان على وجهي، ووَرمَ لسانِي حتى ملأَ فمي فما أدخلُ فيه طعامي إلاّ غصَّها، ووَرمَتْ شفتَايَ حتى غَطَّتِ العليا أنفي، وغطَّت السُّفلى ذقْنِي، وتقطَّعت أمعائي في بطني. إلَهي ذهَبَتْ قوَّة رجلاي حتى لا أطيقُ حملَها، وذهبَ المالُ حتى صِرْتُ أسألُ اللقمةَ مَن كنتُ أعُولُهُ فيمنُّها عليَّ ويعيِّرُنِي.
إلَهي هَلَكَ أولادي ولَم تُبْقِ منهم واحداً لإعانتي ونفعني، إلَهي قد مَلَّنِي أهلي وعفَّني أرحامي وأنكرنِي معارفي، وأعرضَ عني صديقي وهجرنِي أصحابي، وجُحدت حقوقي ونُسيت صَنائعي. أصرخُ فلا أحدَ يصرخني، وأعتذرُ فلا أحد يَعْذُرُنِي، وأدعو فلا أحدَ يجيبُ. إن فضلكَ هو الذي أذلَّني وأعمانِي، وسلطانكَ هو الذي أسقمَني وأنْحَلَنِي، فلو أن ربي فرغَ الهيبةَ التي في صدرِي وأطلقَ لسانِي حتى أتكلمَ بما ينبغي للعبدِ أن يُحَاجَّ عن نفسه لرجوتُ أن يصافيني، ولكنه ألقانِي وتعالَى عني، فهو يرانِي ولا أراهُ، ويسمعُني ولا أسمعه لا هو نَظَرَ إلَيَّ فرحمني ولا هو أدنانِي منه فأتكلمُ بحاجتي، وأنطق ببراءتِي وأخاصمُ عن نفسي.
فلما قال ذلك أيوبُ، نُودِيَ: يا أيوبُ؛ إنِّي لَم أزل منكَ قريباً، فَقُمْ خاصِمْ عن نفسِكَ، وتكلَّم ببراءتك، وشُدَّ إزاركَ، وقُمْ مقامَ جبَّار لتخاصمني. يا أيوبُ؛ إنكَ أردتَ أن تخاصمني بعيبك، وتحاجني بخطئكَ، أم أردتَ أن تُكاثرَنِي بضعفك، أين أنتَ منِّي يوم خلقتُ السماواتِ والأرض؟ هل علمتَ بأيِّ مقدار قدرتُها، أم كنتَ معي يوم مددتُ أطرافها، أم هل علمتَ ما في زواياها؟
أين أنتَ منِّي يوم سَخَّرْتُ البحارَ وانبعثت الأنْهار، أقُدْرَتُكَ حبَسَتِ البحارَ وأمواجَها؟ أم قُدْرَتُكَ محت الأرحامَ حين بلغت مدَّتَها؟ أين أنتَ يوم نصبتُ شوامخَ الجبال، ويوم صببتُ الماء على التراب؟ أبحكمتكَ أحصيتَ القطرَ وقسَّمت الأرزاقَ؟ أم قدرتُكَ تسيِّرُ السحابَ؟ أم هل خزنت أرواح الأمواتِ خزانة الثلج وجبال البَرد؟ وهل تدري أينَ خِزانة الليل والنهار؟ وأين طريقُ النور، ومن جعل العقول في أجوافِ الرِّجال؟ أين أنتَ يا أيوبُ يوم خلقتُ التنين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب، عيناهُ توقدان نَاراً ومنخراهُ يثوران دخاناً، يثور منهما لَهباً كأنه إعصارٌ، النار جوفهُ يحترق ونَفَسُهُ تلتهبُ، كأنَّ صريفَ أسنانهِ أصواتُ الصواعق، وكأنَّ وسطَ عينه لَهيبُ البرقِ، لا يفزعه شيء، ويهلكُ كلَّ شيء يَمر عليه، هل أنتَ يا أيوبُ آخذه بأُحبولَتِكَ، أو واضعُ اللِّجام في شدقه؟ هل تحصي عمره أو تعرفُ أجله أو تعطيه رزقه؟.
فقالَ عند ذلك أيوبُ: قَصُرْتُ عن هذا الأمرِ، ليتَ الأرضَ تنشقُّ لِي فأذهبُ فيها، اجتمعَ عليَّ البلاءُ الحي، قد جعلتني لكَ كالعدوِّ، وقد كنتَ تُكرِمُني إلهي، هذه كلمةٌ زلَّت على لسانِي فلن أعودَ بشيءٍ تكرههُ مني، قد وضعتُ يدي على فمِي، وعضَضْتُ على لسانِي، وألصقتُ خَدِّي بالتراب ودَسَّيْتُ فيه وجهي لِذِلِّي وسكتُّ كما أسكتتني خطيئتي، ربي اغفِرْ لِي ما قُلْتُ فلا أعودُ لِمثله أبداً.
فقال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يا أيوبُ؛ قد نَفَدَ فيك عِلْمِي، وسبقت رحَمَتي غضَبي، إن أخطأتَ فقد غفرتُ لك، ورددتُ عليك مالكَ وأهلك مثلَهم معهم؛ لتكون لِمن خلفكَ آيةً، وتكونَ عبرةً لأهلِ البلاء وعِبرةً للصابرين، ارْكُضْ برجلِكَ، هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فِيْهِ شِفَاؤُكَ فاركُضْ برجلِكَ، فانفجرت له عينٌ فدخلَ فيها فاغتسلَ منها، فأذهبَ الله عنهُ كلَّ ما كان به من البلاءِ.
فأَقْبَلَتِ امرأتهُ تَلْتَمِسُهُ في مضجعهِ فلم تَجِدُهُ، فقامت كَالْوَالِهَةِ فوجدته جالساً عند العينِ فلم تعرفْهُ، فقالت لهُ: يا عبدَ اللهِ؛ هل لكَ عِلْمٌ بالرجلِ الْمُبْتَلَى الذي كان ها هنا؟ فقال: وَهَلْ تعرفينهُ؟ قالت: نَعَمْ؛ وما لِي لا أعرفهُ؟ فَتَبَسَّمَ فقال أنه هو، فَعَرَفَتْهُ بمَضْحَكِهِ، فاعتنقتهُ). قال ابنُ عبَّاس: (فَوَا الَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ؛ مَا فَارَقَتْهُ مِنْ عِنَاقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمَا كُلُّ مَالٍ لَهُمَا وَوَلَدٍ).
قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
"أقَامَ أيُّوبُ فِي بَلاَئِهِ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيْبُ وَالْبَعِيْدُ" . وقال الحسنُ: (مكثَ أيوبُ مطروحاً على كِنَاسَةٍ في مزبلةٍ سبعَ سنين، وكان مع ذلك لا يَفْتَرُ عن ذكرِ الله والثَّناءِ عليه، والصبرِ على بلائه.
فصرخَ إبليسُ صرخةً جَمع فيها جنودَهُ من أقطارِ الأرض جَزَعاً من صبرِ أيوبَ، فلمَّا اجتمعوا إليه قالُوا له: ما أصابكَ؟ قال: أعيَانِي هذا العبدُ الذي سألتُ اللهَ أن يُسَلِّطَنِي عليهِ وعلى ماله وولدهِ، فلم أدَعُ له مالاً ولا وَلداً، فلم يَزْدَدْ إلاّ صَبراً وثناءً على اللهِ، ثُم سُلِّطْتُ على جسدهِ فتركتهُ جيفةً ملقًى على كناسةِ بني إسرائيلَ لا يقربهُ إلاّ امرأتَهُ، فاستغثتُ بكم لِتُقَوُّونِي عليه.
فقالوا له: وأين مَكْرُكَ وأين خداعُكَ الذي أهلكتَ بها من مضَى من الأممِ؟ قال: بَطَلَ ذلك كله مع أيوبَ، فأشيروا عليَّ. قالوا: أنتَ حين أخرجتَ آدم من الجنَّة من أين أتيتهُ؟ قال: مِن قِبَلِ امرأتهِ، قالوا: فشأنُكَ بأيوبَ مِن قِبَلِ امرأتهِ، فإنه لا يعصِيها وليس يقربهُ أحدٌ غيرُها.
قال: أصبْتُم، فانطلقَ حتى أتى امرأتَهُ فتمثَّلَ لها في صورةِ رجُلٍ، فقال: أين بعلُكِ يا أمَةَ اللهِ؟ قالت: هو ذاكَ يَحُكُّ قروحَهُ والدودُ يتردَّدُ في جسدهِ، فوَسْوَسَ إليها وذكَّرَها بأيامِ شباب أيوبَ وجماله، وما كانا فيه من النِّعَمِ والحال الطيِّب، وكيفَ تَقَلَّبَ عليهم الزمانُ حتى صارَ أيوبُ في هذا الضَّررِ العظيم، ولَم يزل يذكِّرُها بأيامٍ قد مضت حتى أبكَاهَا، فلما عَلِمَ أنَّها قد جَزِعَتْ وحزنت، أتَاهَا بسَخْلَةٍ وقال لَها: قُولِي لأيوبَ يذبحُ هذه الشاة لِي وهو يبرأُ.
قال: فجاءت إلى أيوب وقالت لهُ: إلى متى يُعَذِّبُكَ اللهُ ألاَ يرحمُكَ؟ أين المالُ، أين الماشيةُ، أين الولدُ، أين لونُكَ الحسنُ؟ قد تغير وصارَ كما ترى، أين جسمُكَ الحسنُ؟ قد بَلِيَ وتردَّد فيه الديدانُ، فَاذْبَحْ هذه السخلةَ لِمن أمرَنِي واسترح.
فقال لها أيوبُ: أتاكِ عدوُّ الله فنفخَ فيك فَاحِشَهُ، ويلك أرأيتِ الذي تبكينَ عليه من المال والولدِ والصحَّة، مَن أعْطَانِيَهُ؟ قالت: اللهُ، قال: فَكَمْ مُتِّعْنَا به؟ قالت: ثَمانين سنةً، قال: فَكَمِ ابتلانا الله؟ قالت: سبعَ سنين، قال: وتلك ما عَدَلَتْ ولا أنصفتْ، ألاَ صبرْتِ حتى تكون في البلاءِ ثَمانين سنةً، كما كنا في الرَّخاء ثَمانين سنةً، واللهِ لئن شَفَانِي اللهُ لأجلدنَّكِ مائة جلدةٍ، كيف تأمرِيني أن أذبحَ لغيرِ الله؟ طعامُكِ وشرابُكِ عليَّ حرامٌ أن أذوقَ شيئاً مِما تأتينِي به بعد إذا قُلْتِ لِي هذا القولَ، فاعتزلِي عنِّي ولا أراكِ، فطرَدَها فذهَبتْ.
وقال وهبُ: (لَمْ يَأْمُرْهَا إبْلِيْسُ بذبحِ السَّخْلَةِ، وَإنَّمَا قَالَ لَهَا: لَوْ أنَّ بَعْلَكِ أكَلَ طَعَاماً، وَلَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ لَعُوفِيَ مِنَ الْبَلاَءِ).
وروي: أن إبليسَ قال لَها: اسجُدِي لِي سجدةً وأردُّ عليكِ المالَ والأولاد وأُعافِي زوجَكِ، فأنا الذي صنعتُ بكم ما صنعتُ، فرجعت إليه فأخبرتْهُ بذلك، فقال لَها: أتاكِ عدوُّ الله لِيَفْتِنَكِ عن دِيْنِكِ، وحلفَ إنْ عافاهُ الله ليضربَنَّها مائةَ جلدةٍ، وحرَّم طعامَها وشرابَها وطرَدَها، فلما نظرَ أيوبُ إلى أنه قد طردَ امرأته وليس عندهُ طعامٌ ولا شراب ولا صديقٌ خَرَّ ساجداً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وقال: إلَهي مسَّنِي الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمين، مِن طمعِ إبليس في سجود امرأتِي له، ودعائه إياها وإيَّاي إلى الكفرِ).
وإنَّما قال (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) حين قصدَت الدُّودةُ إلى قلبهِ ولسانه، فخَشِيَ أن يَفْتَرَ عن ذكرِ الله، وَقِيْلَ: إنَّما قال ذلكَ حين أتاهُ صديقان فقامَا مِن بعيدٍ لا يقدرون على الدُّنُوِّ منهُ من ريحهِ، فقال أحدُهما لصاحبه: لو عَلِمَ اللهُ في أيُّوبَ خيراً ما ابتلاهُ بما ترى، قال: فما سَمِعَ أيوبُ شيئاً كان أشدَّ عليه من هذه الكلمةِ، فعند ذلك قالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ من شَماتة الأعداءِ، يدلُّ عليه ما روي أنه قيل لهُ بعد ما عُوفِيَ، ما كان أشدَّ عليك في بَلائِكَ؟ قال: شَماتةُ الأعداءِ، وأنشَدُوا في معناهُ:

كُلُّ الْمَصَائِب قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى فَتَهُونُ غَيْرَ شَمَاتَةِ الْحُسَّادِ
كُلُّ الْمَصَائِب تَنْقَضِي أيَّامُهَا وَشَمَاتَةُ الْحُسَّادِ بالْمِرْصَادِ

قال وهبُ: (فلما طردَ أيوبُ امرأتَه، وبقي وحيداً ليسَ معه مَن يُطْعِمُهُ ويسقيهِ، قال عند ذلكَ: يَا رَب إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأنْتَ أرْحَمُ الرَّاحِميْنَ، فقال لهُ اللهُ: إرفَعْ رأسَكَ؛ فقد استَجَبْتُ لكَ، ارْكُضْ برجلِكَ، فركضَ برجلهِ، فَنَبَعَتْ عينٌ فاغتسلَ منها، فلم يبقَ مِن دائهِ شيءٌ ظاهرٌ إلاَّ سقطَ عنه، وأذهب اللهُ عنه كلَّ ألَمٍ وسَقَمٍ، وعاد إليه شبابهُ وجماله أحسنَ مما كان وأفضلَ، ثُم ضربَ برجله فَنَبَعَتْ عينٌ أُخرى، فشَرِبَ منه، فلم يبقَ في جوفه داءٌ إلاّ خرجَ، فقام صَحيحاً وكُسِيَ حُلَّةً، ثُم الْتَفَتَ عن يَمينه فرأى جميعَ ما كان له من أهلٍ ومال وولدٍ، وقد صار معهم مثلُهم، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا }.
قال وهب: (كَانَ لَهُ سَبْعُ بَنَاتٍ وَثَلاَثَةُ بَنِيْنَ)، وقال ابنُ يسار: (سَبْعَةُ بَنِيْنَ وَسَبْعُ بَنَاتٍ، فَرَدَّهُمُ اللهُ بأَعْيَانِهِمْ، وَأعْطَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) وهذا قولُ ابنِ مسعود وقتادةُ وكعب، قالوا: (أحْيَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأبْدَلَهُ بكُلِّ شَيْءٍ ذهَبَ عَنْهُ ضِعْفَيْنِ)، قال ابنُ عبَّاس: (رَدَّ اللهُ امْرَأتَهُ فِي شَبَابهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِيْنَ وَلَداً ذكراً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ }؛ أي واذكُرْ إسْمَاعِيلَ وَإدْرِيسَ وَذا الْكِفْلِ، واختلفوا في ذكرِ ذي الْكِفْلِ، قال أبو موسى الأشعريُّ وقتادة ومجاهدُ: (كَاَن ذُو الْكِفْلِ رَجُلاً صَالِحاً تكفَّل لنبيٍّ من الأنبياءِ أنه يصومُ النهار ويقوم الليلَ، وأن لا يغضبَ ويقضي بالحقِّ، فوفَّى بذلك كله، فأثنَى اللهُ عليه وذكَرَهُ مع الأنبياءَ. وذلك أن نبيّاً من بنِي إسرائيل أوحَى اللهُ إليه: أنِّي أريدُ قَبْضَ روحِكَ، فاعْرِضْ مُلْكَكَ على بني إسرائيل، فمَنْ تَكَفَّلَ لكَ أن يصلي بالليلِ لا يَفْتَرَ، ويصومَ النهار ولا يُفْطِرَ، ويقضي بين الناسِ ولا يغضبَ، فادفع مُلْكَكَ إليه. ففعل ذلكَ، فقامَ شابٌّ فقالَ: أنا أتَكَفَّلُ لكَ بهذا، فتكفَّلَ ووفَّى به، فشَكَرَهُ اللهُ وأثنى عليهِ، ولذلك سُمي ذا الْكِفْلِ). وقال الحسن: (هُوَ نَبيٌّ اسْمُهُ ذُو الْكِفْلِ) ومعنى ذُو الِكفْلِ؛ أي ضُوعِفَ ثوابهُ على ثواب غيره مِمن آمَنَ به في زمانهِ.
وقال مجاهدُ أيضاً: (لَمَّا كَبرَ الْيَسَعُ عليه السلام قالَ: لو أنِّي استخلفتُ رجلاً على الناسِ يعملُ عليهم في حياتِي حتى أنظرَ كيف يعملُ، قالَ: فجمعَ الناسَ وقال: مَن يَتَكَفَّلُ لِي بثلاثةٍ اسْتَخْلَفْتُهُ: يصومُ النهارَ، ويقومُ الليلَ، ويحكمُ بين الناس ولا يغضبُ؟ فقام رجلٌ تُرد به العيون فقال: أنا، فردَّهُ في ذلك اليومِ، ثُم قال كذلكَ في اليوم الثانِي، فقامَ ذلك الرجل فردَّهُ، فقال مثلَ ذلك في اليومِ الثالث، فقامَ ذلك الرجلُ، فاستخلفَهُ فَوَفَّى بذلك كله).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ }؛ أي على طاعةِ الله وعن معاصيه، { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }؛ يعني ما أنْعَمَ اللهُ عليهم من النبوَّة، وما صيَّرهم اليه في الجنَّةِ من الثواب.