التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٦١
-النور

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ }؛ وذلك أنَّ المسلمينَ كانوا إذا غَزَوا خَلَّفُوا أزْمانَهم وكانوا يدفعونَ إليهم المفاتيحَ ويقولونَ لَهم قد أبَحْنَا لكم أن تأكُلُوا مِما في بُيُوتِنَا، فكانوا يتحرَّجُون مِن ذلك ويقولونَ: لا ندخُلُها وهم في غَيْبٍ امتثالاً لقوله تعالَى { { لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [النساء: 29] فَنَزَلتْ هذه الآيةُ رُخصَةً لَهم.
ومعناها: نَفْيُ الحرجِ عن الزَّمْنَى في أكْلِهم من بيوتِ أقاربهم أو بيوتِ مَن يدفعُ إليهم المفتاحَ إذا خرجَ للغَزْوِ وخَلَفَهُ بحفظِ ماله؛ لأنَّهم كانوا يتحَرَّجون أن يأكلُوا مما يحفظونَهُ، فأَعْلَمَهُمُ اللهُ تعالى أنه لا جُنَاحَ عليهم في ذلكَ.
وذهبَ الحسنُ إلى أن معنى الآيةِ: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيْضِ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ }؛ أي لا حرجَ عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، أرادَ بهذا بيوتَ أبنائِكم ونسلهم، وإنَّما أضافَ بيوتَ الأبناءِ إليهم لأنَّهم مِن أنفسهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"أنْتَ وَمَالُكَ لأَبيْكَ" ، ولِهذا قابلَهُ ببيوتِ الآباء، فقالَ: { أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ }؛ ولَم يقل بيوتَ أبنائكم، فعُلِمَ أن المرادَ بقوله: { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أي بيوتِ أبنائِكم وأزواجِكم، وبيتُ المرأةِ كبيت الزَّوجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ }؛ أخرجَ الكلامَ على وفْقِ العادةِ؛ لأن الغالبَ مِن أحوالِ هؤلاء أن تَطِيْبَ أنفسُهم بذلكَ، فجازَ الأكلُ مِن بيوتِهم بغيرِ إذنٍ لدلالة الحالِ.
فأمَّا إذا عَلِمَ أن صاحبَ البيت لا تطيبُ نفسهُ بذلكَ، لا يحلُّ له أن يتناولَ شيئاً من ذلكَ، { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ }؛ يعني بيوتَ عبيدِكم وإمائكم، وذلك أن السيِّدَ يَملِكُ بيتَ عبدهِ، أو الْمَفَاتِحُ معناها الخزائنُ، كقولهِ تعالى
{ { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [الأنعام: 59] أي خزائنُ الغيب.
ومعناهُ: المفاتيحُ التي يُفْتَحُ بها الخزائنُ، يعني بذلك الوكلاءَ والأُمَنَاءَ والعبيدَ الذين يَملكون أمرَ الخزائنِ وتكون مفاتِحُها بأيديهم، فليس عليهم في الأكلِ جُنَاحٌ إذا كان أكْلاً يَسيراً مثل أن يأكُلَ مِن ثَمَرِ حائطٍ يكون قَيِّماً عليه أو يشربَ مِن لبنِ ماشية يكون قَيِّماً عليها. وقال السديُّ: (الرَّجُلُ يُوَلِّي طَعَامَهُ غَيْرَهُ يَقُومُ عَلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ أنْ يَأْكُلَ مِنْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ صَدِيقِكُمْ }؛ يعني صَدِيْقاً يسرُّهُ أن يأكلَ من طعامهِ، وإنَّما أطلقَهُ على عادةِ الصحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كما روي في سبب نزُول هذا: أنَّ مَالِكَ بْنَ يَزِيْدٍ وَالْحَارثَ بْنَ عَمْرٍو كَانَا صَدِيْقَيْنِ، فَخَرَجَ الْحَارثُ غَازياً وَخَلَّفَ مَالِكاً فِي أهْلِهِ وَخَزَائِنِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ رَأى مَالِكاً مَجْهُوداً، قَالَ: مَا أصَابَكَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي أنْ آكُلَ مِنْ مَالِكَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ صَدِيقِكُمْ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } سببُ نزول هذه الآيةِ: أن بَنِي كِنَانَةَ - وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَب - كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَجُوعُ أيَّاماً وَلاَ يَأْكُلُ حَتَّى يَجِدَ ضَيْفاً فَيَأْكُلُ مَعَهُ، وَإذا لَمْ يَجِدْ أحَداً فَلاَ يَأْكُلُ شَيْئاً، وَرُبَّمَا كَانَتْ مَعَهُ الإبلُ مُجَفَّلَةً فَلاَ يَشْرَبُ مِنْ ألْبَانِهَا حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُشَارِبُهُ، فأعلمَ اللهُ تعالى أن الرجلَ منهم إذا أكلَ وحدَهُ فلا إثْمَ عليهِ. ومعنى { أَشْتَاتاً } متفرِّقين.
ويستدلُّ مِن هذه الآيةِ أن للجماعةِ في السَّفرِ أن يخلِطُوا طعامَهم فيأكلُوا جميعاً أو يأكلَ واحدٌ منهم مِن زاده ولا حرجَ عليه في ذلك. والغرضُ من هذه الآيات: نفيُ الْحُرْمَةِ عن كلِّ ما تطيبُ به الأنفسُ.
وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه في سبب نزول هذه الآيات: (أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{ { لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ } [النساء: 29] تَحَرَّجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُؤَاكَلَةِ الْمَرْضَى والزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالْعُرْجِ، وَقَالُواْ: قَدْ نَهَانَا اللهُ عَنْ أكْلِ الْمَالِ بالْبَاطِلِ، وَالأَعْمَى لاَ يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّيِّب مِنَ الطَّعَامِ، وَالأَعْرَجُ لاَ يَسْتَطِيْعُ الْمُزَاحَمَةَ، وَالْمَرِيْضُ لاَ يَسْتَوفِي حَقَّهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ).
والمعنى: ليس عليكُم في مؤاكلةِ الأعمى والأعرجِ والمريض حرجٌ. وقال الضحَّاكُ: (كَانَ الْعُمْيَانُ وَالْعُرْجَانُ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ الأَصِحَّاءِ؛ لأَنَّ النَّاسَ يَتَقَذرُونَهُمْ وَيَكْرَهُونَ مُؤَاكَلَتَهُمْ، وَكَانَ أهْلُ الْمَدِيْنَةِ لاَ يُخَالِطُهُمْ فِي طَعَامِهِمْ أعْمَى وَلاَ أعْرَجُ وَلاَ مَرِيْضُ تَقَذُّراً، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ }؛ أي يُسَلِّمُ بعضُكم على بعضٍ، وإنَّما قال { عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } لأن المؤمنينَ كنفْسٍ واحدةٍ. وَقِيْلَ: هذا في دخُولِ الرجُلِ بيتَ نفسهِ، والسَّلاَمُ على أهلهِ ومَن في بيتهِ. قال قتادةُ: (إذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلِّمْ عَلَى أهْلِكَ فَهُمْ أحَقُّ مَنْ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ، وَإذا دَخَلْتَ بَيْتاً لِيْسَ فِيْهِ أحَدٌ، فَقُلْ: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، وَمِنَ السُّنَّةِ إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَ نَفْسِهِ أنْ يُسَلِّمَ عَلَى أهْلِهِ، فَإنَّهُ يَزْدَادُ بذلِكَ بَرَكَةً فِي بَيْتِهِ وَأهْلِهِ).
وقال صلى الله عليه وسلم:
"إذا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُواْ عَلَى أهْلِيكُمْ، وَإذا طَعِمْتُمْ طَعَاماً فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَإنَّ الشَّيْطَانَ إذا سَلَّمَ أحَدُكُمْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ، وَإذا ذكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَى طَعَامِهِ قَالَ لِجُنْدِهِ مِنَ الشَّيَاطِيْنَ: لاَ مَبيْتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإنْ لَمْ يُسَلِّمْ حِيْنَ يَدْخُلُ بَيْتَهُ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَى طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ لِجُنْدِهِ: أدْرَكْتُمُ الْعَشَاءَ وَالْمَبيْتَ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً }؛ أي افعَلُوا ذلكَ تَحِيَّةَ أمَرَكم اللهُ بها، لكم فيها البركةُ والمغفرة والثواب، { كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَٰتِ }؛ أي هكذا بَيَّنَ اللهُ لكم الدلالاتِ والأحكامَ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }؛ أي لكي تَعْقِلُونَ.