التفاسير

< >
عرض

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ
١٦
-النمل

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ }؛ أي وَرثَ نُبُوَّتَهُ وعلمَهُ ومُلكَهُ، وذلك أنهُ كان لداودَ تِسْعَةَ عشرَ إبناً ذكراً، فوَرثَ سليمانُ مُلْكَهُ ومجلسَهُ ومقامه ونبوَّته مِن بينهم.
وعن أبي هريرةَ قال: (نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى دَاوُدَ عليه السلام مَخْتُوماً، فِيْهِ عَشْرُ مَسَائِلَ؛ أن اسْأَل ابْنَكَ سُلَيْمَانَ عَنْهُنَّ، فَإنْ أخْرَجَهُنَّ فَهُوَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ: فَدَعَا دَاوُدُ سَبْعِيْنَ قِسِّيْساً وَسَبْعِيْنَ حَبْراً، وَأجْلَسَ سُلَيْمَانَ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ لَهُ: يَا نَبيَّ اللهِ؛ إنَّهُ نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيْهِ عَشْرُ مَسَائِلَ، أرَدْتُ أنْ أسْأَلَكَ عَنْهُنَّ، فَإنْ أنْتَ أخْرَجْتَهُنَّ فَأَنْتَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لِتَسْأَلْ نَبيَّ اللهِ عليه السلام عَمَّا اللهُ يَرَاهُ، وَمَا تَوْفِيْقِي إلاَّ باللهِ.
قَالَ: أخْبرْنِي يَا نَبيَّ: مَا أبْعَدُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا أقْرَبُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا آنَسُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا أوْحَشُ الأَشْيَاءِ؟ وَمَا الْقَائِمَانِ؟ وَمَا الْمُخْتَلِفَانِ؟ وَمَا الْمُتَبَاغِضَانِ؟ وَمَا الأَمْرُ الَّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حَمَدَ آخِرَهُ؟ وَمَا الأَمْرُ الَّّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ ذمَّ آخِرَهُ؟
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أمَّا أقْرَبُ الأَشْيَاءِ فَالآخِرَةُ، وَأمَّا أبْعَدُ الأَشْيَاءِ فَمَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأمَّا آنَسُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ فِيْهِ رُوحٌ، وَأمَّا أوْحَشُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ لاَ رُوحَ فِيْهِ، وَأمَّا الْقَائِمَانِ فَالسَّّمَاءُ والأَرْضُ، وَأمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَأمَّا الْمُتَبَاغِضَانِ فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ، وَأمَّا الأَمْرُ الَّّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حَمَدَ آخِرَهُ فَالْحِلْمُ عَلَى الْغَضَب، وَأمَّا الأمْرُ الَّذِي إذا رَكِبَهُ ذمَّ آخِرَهُ فَالْحِدَّةُ عَلَى الْغَضَب.
قَالَ: فَفَكَّ الْخَتْمَ فَإذا هِيَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ سَوَاءٌ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. فَقَالَ الْقِسِّيْسُونَ وَالأَحْبَارُ: لَنْ نَرْضَى حَتَّى نَسْأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَإنْ هُوَ أخْرَجَهَا فَهُوَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: سَلُونِي وَمَا تَوْفِيْقِي إلاَّ باللهِ، قَالُواْ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي إذا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ؟ وَإذا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ؟ قَالَ: هُوَ الْقَلْبُ؛ إذا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإذا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ. قًَالُواْ: صَدَقْتَ! أنْتَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِهِ. وَدَفَعَ إلَيْهِ دَاوُدُ قَضِيْبَ الْمُلْكِ، وَمَاتَ مِنَ الْغَدِ).
وعن محمَّد بن جعفرٍ عن أبيهِ قال: (أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ مُلْكَ مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَاربهَا، فَمَلَكَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّةَ أشْهُرٍ، مَلَكَ أهْلَ الدُّنْيَا كُلَّهُمْ مِنَ الْجِنِّ والإنْسِ وَالشَّيَاطِيْنِ وَالدَّوَاب وَالطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، وَأُعْطِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْطِقَ كُلِّ شَيْءٍ).
وقولهُ تعالى: { وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ }؛ صَوْتٌ منهُ. قال الفرَّاءُ: (مَنْطِقُ الطَّيْرِ: مَعْنَى كَلاَمِ الطَّيْرِ، جَعَلَهُ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ إذا فُهِمَ). قال مقاتلُ: (كَانَ سُلَيْمَانُ جَالِساً إذْ مَرَّ بهِ طَائِرٌ، فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ هَذا الطَّائِرُ؟ قَالُواْ: لاَ، قَالَ: إنَّهُ قَالَ لِي: السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ. وَمَرَّ سُلَيْمَانُ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى بُلْبُلٍ فَوْقَ شَجَرَةٍ يُحَرِّكُ رَأسَهُ وَيُمِيْلُ ذنَبَهُ وَيَصِيْحُ، فَقَالَ لأَصْحَابهِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذا الْبُلْبُلُ؟ قَالُواْ: اللهُ أعْلَمْ! قَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: أكَلْتُ نِصْفَ ثَمَرَة فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ).
وعن الكلبيِّ قال: (صَاحَ وَرشَانٌ عِنْدَ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: أتَدْرُونَ مَا يقُولُ؟ قَالُواْ: لاَ! قَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: لِدُو لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَاب. وَصَاحَتْ فَاخِتَةٌ عِنْدَ سُلَيْمَانَ؛ فَقَالَ: إنَّهَا تَقُولُ: لَيْتَ ذا الْخَلْقِ لَمْ يُخْلَقُواْ، وَلَيْتَهُمْ إذا خُلِقُوا عَلِمُوا لِمَاذا خُلِقُواْ. وَصَاحُ هُدْهُدٌ فَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: كَمَا تُدِيْنُ تُدَانُ، وَصَاحَ طَاوُوسٌ عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ. وَصَاحَ صُرَدٌ عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: اسْتَغْفِرُواْ اللهَ يَا مُذْنِبيْنَ. وَصَاحَ خِطَّانٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: قَدِّمُواْ خَيْراً تَجِدُوهُ. وَهَدَرَتْ حَمَامَةٌ؛ فَقَالَ: إنَّهَا تَقُولُ: سُبْحَانَ رَبي الأَعْلَى مِلْئَ سَمَاوَاتِهِ وَأرْضِهِ. وَصَاحَ قُمْرِيٌّ؛ فَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبي الْقُدُّوسُ. وَصَاحَ بَازٌ فَقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبي وَبحَمْدِهِ. وَالضِّفْدَعُ يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ. وَالْقَطَاةُ تَقُولُ: مَنْ سَكَتَ سَلِمَ. وَالْحَدَأةُ تَقُولُ: سُبْحَانَ الْمَذْكُور بكُلِّ لِسَانٍ).
وعن مكحولٍ قال: (صَاحَ دَرَّاجٌ عِنْدَ سُلَيْمَانَ عليه السلام فَقَالَ: أتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُواْ: لاَ! قَالَ: إنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى). وعنِ الحسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ الدِّيْكَ يَقُولُ فِي صِيَاحِهِ: اذْكُرُوا اللهَ يَا غَافِلِيْنَ" . وعن الحسنِ بنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قالَ: (إذا صَاحَ النَّسْرُ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ عِشْ مَا عِشْتَ آخِرُهُ الْمَوْتُ، وَإذا صَاحَ الْعُقَابُ قَالَ: فِي الْبُعْدِ مِنَ النَّاسِ أُنْسٌ، وَإذا صَاحَ الْقَنْبَرُ قَالَ: إلَهِي الْعَنْ مُبْغِضِي آلَ مُحَمَّدٍ).
ورُوي أنَّ قَوماً من أهلِ العِرَاقِ مِن أهل الكتاب وَفَدُوا على ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما؛ فقال لهُ: أنتَ ابنُ عمِّ الذي يزعمُ أنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: (نَعَمْ). قالُوا: يا قومِ قد عرَفْنا الكُتُبَ، وعرَفْنا ما فيها ونحنُ نسألُكَ عن سبعةِ أشياءَ، فإنْ أنتَ أخبرتَنا بها آمَنَّا وصدَّقنا، قالَ: (اسْأَلُونِي تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلُونِي تَعَنُّتاً). قالوا: أخبرْنا ما يقولُ القَنْبَرُ في صفيرهِ والزَّرزُورُ والدَّراجُ؟ وما يقولُ الدِّيكُ في صياحهِ؟ والضِّفدعُ في نَقِيْقِهِ؟ والحِمَارُ فِي نَهِيْقِهِ، والفَرَسُ في صهيلهِ؟
فقَالَ: (أمَّا الْقَنْبَرُ فَإنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ مُبْغِضِي مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ. وأمَّا الزَّرْزُورُ فَإنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ قُوتَ يَوْمٍ بيَوْمٍ يَا رَزَّاقُ. وَأمَّا الدَّرَاجُ فَيَقُولُ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وأمَّا الدِّيْكُ فَإنَّهُ يَقُولُ: اذْكُرُواْ اللهَ يَا غَافِلِيْنَ. وَأمَّا الضِّفْدَعُ فَإنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ الْمَعْبُودِ فِي لُجَجِ الْبحَار. وَأمَّا الْحِمَارُ فَإنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنِ الْعَشَّارَ. وَأمَّا الْفَرَسُ فَإنَّهُ يَقُولُ "إذا الْتَقَى الصَّفَّانِ": سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ). فقَالُوا: يا ابنَ عبَّاس نشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، وحَسُنَ إسلامُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ }؛ يعني من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ، وقال مقاتلُ: (يَعْنِي الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ وَتَسْخِيْرَ الرِّيَاحِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِيْنِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ }؛ أي الزيادةُ الظَّاهرة على ما أُعْطِي غيرُنا.