التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٢١
-آل عمران

التفسير الكبير

قوله عزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }؛ قال مجاهدُ والكلبيُّ: "غَدَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَنْزِلِ عَائِشَةَ يَمْشِي عَلَى رجْلَيْهِ إلَى أحُدٍ، وَصَفَّ أصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ كَمَا يَصُفُّهُمْ لِلصَّلاَةِ، وَذَلِكَ أنَّ الْمُشْرِكِيْنَ نَزَلُواْ بأُحُدٍ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بنُزُولِهِمْ اسْتَشَارَ أصْحَابَهُ؛ فَقَالَ أكْثَرُهُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أقِمْ بالْمَدِيْنَةِ لاَ تَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَإنْ أقَامُواْ هُنَاكَ أقَامُواْ فِي شَرِّ مَجْلِسٍ، وَإنْ دَخَلُواْ إلَيْنَا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ وَرَمَاهُمُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانُ بالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَرَجَعُواْ كَمَا جَاءُواْ، فَأعْجَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذا الرَّأيَ. وَقَالَ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أخْرُجْ بنَا إلَى هَؤُلاَءِ الأكْلَب لاَ يَرَوْنَ أنَّهُ جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفاً. وأَتَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَاريُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ لاَ تَحْرِمْنِي الْجَنَّةَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ نَبيّاً لأَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ: بِمَ؟ قَالَ: بأنِّي أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنِّي لاَ أفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ، فَقَالَ: صَدَقْتَ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيْداً.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنِّي قَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أنَّ فِي ذُبَابَةَ سَيْفِي ثَلَماً فأَوَّلْتُهَا هَزِيْمَةً، ورأَيْتُ أنِّي أدْخُلُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِيْنَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِيْنَةَ، فَكَرِهْتُ الْخُرُوجَ إلَيْهِمْ، فَإنْ رَأَيْتُمْ أنْ تُقِيْمُوا بالْمَدِيْنَةِ وَتَدْعُوهُمْ، فَإنْ أقَامُوا أقَامُوا عَلَى شَرِّ مُقَامٍ، وَإنْ دَخَلُواْ المَدِيْنَةَ قَاتَلْنَاهُمْ فِيْهَا وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ أنْ يَدْخُلُواْ الْمَدِيْنَةَ فَيُقَاتَلُواْ فِي الأَزقَّةِ، فَقَالَ رجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ مِمَّنْ فَاتَهُمْ يَوْمُ بَدْرٍ وَأَرادَ اللهُ لَهُمْ الشَّهَادَةَ يَوْمَ أُحُدٍ: أُخْرُجْ بنَا إلَى أعْدَائِنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَكَرِهَ الْخُرُوجَ إلَيْهِمْ وَأمَرَ بتَبْوِئَةِ الْمَقَاعِدِ لِلْقِتَالِ إلَى أنْ يُوافِيَهُمُ الْمُشْرِكُونَ - وَالْمَقَاعِدُ هِيَ الْمَوَاطِنُ وَالأَمَاكِنُ - فَلَمْ يَزَالُواْ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّونَهُ عَلَى لِقَائِهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَلَبسَ لاَمَتَهُ وَعَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، فَنَدِمَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُواْ: بئْسَمَا صَنَعْنَا؛ نُشِيْرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْوَحْيُ يَأْتِيْهِ، فَقَامُواْ وَاعْتَذرُواْ إلَيْهِ وَقَالُواْ: اصْنَعْ مَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لاَ يَنْبَغِي لِنَبيٍّ أنْ يَلْبَسَ لاَمَتَهُ فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ"
). وكان قد أقامَ المشركون بأُحُدٍ يومَ الأربعاء والخميسِ، فخرجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الجمُعة بعدما صلَّى بأصحابهِ الجمعةَ، فأصبحَ بالشِّعَب مِن أُحُدٍ يومَ السبتِ من النِّصف من شَوَّالَ سنةَ ثلاثٍ من الهجرةِ، وكان مِنْ أمرِ حرب أُحُدٍ ما كانَ؛ فذلك قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي واذكُر إذ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ؛ مِنْ عِنْدِ أهْلِكَ من المدينةِ تُهَيِّئُ للمؤمنينَ مواضعَ للحرب لقتالِ المشركين يومَ أُحُدٍ. وقال الحسنُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي يَوْمِ الأَحْزَاب؛ الأَكْلَبُ: مَوْضِعٌ مِنْهَا قَرِيْبٌ مِنَ الْمَدِيْنَةِ).