التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٣٥
-آل عمران

التفسير الكبير

قوله عزَّ وَجَلَّ: { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ }؛ متصلٌ بقوله { { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 134]. قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: "قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيْلَ أكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَّا، كَانَ أحَدُهُمْ إذا أذْنَبَ ذنْباً أصْبَحَتْ كَفَّارَةُ ذنْبهِ مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ: إجْدَعْ أنْفَكَ؛ إجْدَعْ أُذُنَكَ؛ إفْعَلْ كَذَا إفْعَلْ كَذا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ألاَ أخْبرُكُمْ بخَيْرٍ مِنْ ذلِكَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ هَذِهِ الآيَاتِ" . وقال عطاءُ: (نَزَلَتْ فِي أبي مُقْبلِ التَّمَّار؛ أتَتْهُ امْرَأةٌ حَسْنَاءُ تَبْتَاعُ مِنْهُ تَمْراً، فَقَالَ: إنَّ هَذا التَّمْرَ لَيْسَ بجَيِّدٍ وَفِي الْبَيْتِ أجْوَدُ مِنْهُ، فَهَلْ لَكَ فِيْهِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَذَهَبَ بهَا إلَى بَيْتِهِ وَضَمَّهَا وَقَبَّلَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: اتُّقِ اللهَ سُبْحَانَهُ، فَتَرَكَهَا وَنَدِمَ عَلَى ذلِكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ).
وقال ابنُ عبَّاسٍ ومقاتلُ والكلبيُّ: (آخَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ رَجُلَيْنِ؛ أحَدُهُمَا مِنَ الأنْصَار؛ وَالآخَرُ مِنْ ثَقِيْفٍ، فَخَرَجَ الثَّقَفِيُّ فِي غُزَاةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَخْلَفَ الأَنْصَاريَّ عَلَى أهْلِهِ، فَاشْتَرَى لَهُمْ لَحْماً ذاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا أرَادَتِ الْمَرْأةُ أنْ تَأَخُذ مِنْهُ؛ دَخَلَ عَلَى إثْرِهَا؛ فَدَخَلَتْ بَيْتاً فَتَبعَهَا، فَاتَّقَتْهُ بيَدِيْهَا، فَقَبَّلَ ظَاهِرَ كَفِّهَا، ثُمَّ نَدِمَ وَاسْتَحْيَا؛ فَانْصَرَفَ، فَقَالَتْ لَهُ: وَاللهِ مَا حَفِظْتَ غَيْبَةَ أخِيْكَ؛ وَلاَ وَاللهِ تَنَالُ حَاجَتَكَ. فَخَرَجَ الأَنْصَارِيُّ وَوَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأَسِهِ، وَهَامَ عَلَى وَجْهِهِ يَسِيْحُ فِي الْجِبَالِ وَيَتَعَبَّدُ، فَلَمَّا رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غُزَاهُمْ لَمْ يَرَ الثَّقَفِيُّ أخَاهُ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: لاَ كَثَّرَ اللهُ فِي الإخْوَانِ مِثْلَهُ، وَأَخْبَرَتْهُ فِعْلَهُ، فَخَرَجَ الثَّقَفِيُّ فِي طَلَبهِ، فَسَأَلَ عَنْهُ الرُّعَاءَ فِي الْجِبَالِ وَالْفَيَافِي حَتَّى دُلَّ عَلَيْهِ، فَوَافَاهُ سَاجِداً وَهُوَ يَقُولُ: رَب ذنْبي ذنْبي، فَقَالَ: يَا فُلاَنُ؛ قُمْ فَانْطَلِقْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّ اللهَ أنْ يَجْعَلَ لَكَ مَخْرَجاً. فَأَقْبَلَ مَعَهُ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِيْنَةَ، فَسَأَلَ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ: لاَ تَوْبَةَ لَكَ، أمَا تَعْلَمُ أنَّ اللهَ يَغَارُ لِلْغَازي فِي سَبيْلِهِ مَا لاَ يَغَارُ لِلْمُقِيْمِ، فَقَامَ عَلَى بَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ الذنْبُ الذنْبُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ الصَّحَابَةُ، فَخَرَجَ يَسِيْحُ فِي الْجِبَالِ؛ لاَ يَمُرُّ عَلَى حَجَرٍ وَلاَ مَدَرٍ وَلاَ سَهْلَةٍ حَارَّةٍ إلاَّ تَجَرَّدَ وَتَمَرَّغَ فِيْهَا، حَتَّى كَانَ ذاتَ يَوْمٍ عِنْدَ الْعَصْرِ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بِتَوْبَتِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ).
ومعناها: { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ } كبيرةً { أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } بفعلِ الصَّغيرةِ مثلَ النَّظرةِ واللَّمْسِ والغَمْزِ والتقبيلِ، ذكَرُواْ مقامَهم بين يديِّ الله وعقابه. وقيلَ: معناه: ذكَرُوا اسمَ اللهِ، فقالُوا ربَّنا ظلمْنَا أنفُسَنا فاغفِرْ لنَا. وقال السُّدِّيُّ: (قَوْلُهُ: { فَعَلُواْ فَاحِشَةً } يَعْنِي الزِّنَا) وَقَوْلُهُ { أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } قال الكلبيُّ: (يَعْنِي لِمَا دُونَ الزِّنَا مِثْلَ الْقُبْلَةِ واللَّمْسِ وَالنَّظْرَةِ فِيْمَا لاَ يَحِلُّ). وقيل: { فَعَلُواْ فَاحِشَةً } أي فعلُوا الكبائرَ؛ وقولهُ { أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } يعني الصَّغائِرَ. وقيل: { فَعَلُواْ فَاحِشَةً } فِعْلاً { أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } قَوْلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }؛ أي ليسَ أحدٌ يقدِرُ على غُفْرَان الذنب إلاَّ اللهُ. قولهُ عزَّ وَجَلَّ: { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }؛ معناه: ولم يُقِيْمُوا عَلَى مَا فَعَلُواْ مِنَ المعصيةِ، فإنَّ الاستغفارَ باللسانِ بغيرِ ندامَةِ القلب تَوْبَةُ الْكَذابيْنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي يعلمونَ أنَّها معصيةٌ، فإنَّهم اذا لم يعلَمُوا أنَّها خطيئةٌ كان إثماً مَوْضُوعاً عنهم؛ مثل أنْ يتزوَّج أمَّهُ من الرِّضاعةِ أو أخْتَهُ من الرِّضاعةِ وهو لا يعلمُ، أو يشتريَ جاريةً فَيَطَأُهَا، ثم تستحقُّ الجاريةُ كان إثْمُ ذلك موضُوعاً عنه. وقيل: معناهُ: وهم يعلمونَ أنَّ لَهُمْ رَبّاً يغفرُ الذنوبَ.
قال قتادةُ: (إيَّاكُمْ وَالإصْرَارَ، فَإنَّمَا هَلَكَ الْمُصِرُّونَ الماضونَ قُدُماً لا ينهاهم مَخَافَةُ اللهِ عَنْ حَرَامٍ حَرَّمَهُ اللهُ؛ وَلاَ يَتُوبُونَ مِنْ ذنْبٍ أصَابُوهُ حَتَّى أتَاهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ عَلَى ذلِكَ). وقال السُّدِّيُّ: (الإصْرَارُ السُّكُوتُ وَتَرْكُ الاسْتِغْفَارِ). قال صلى الله عليه وسلم:
"لاَ كَبيْرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَار، وَلاَ صَغِيْرَةَ مَعَ الإصْرَار" وأصلُ الإصْرار الثباتُ على الشَّيء. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أذْنَبَ ذَنْباً وَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبّاً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ؛ غَفَرَ لَهُ اللهُ وَإنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ" . وقالَ صلى الله عليه وسلم: "مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِيْنَ مَرَّةً، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَلِمَ أنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ غَفَرْتُ لَهُ وَلاَ أبَالِي"
].