التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
غُلِبَتِ ٱلرُّومُ
٢
فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
٣
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ
٤
بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٥
-الروم

التفسير الكبير

{ الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ }؛ أي غَلَبَتْ فارسُ الرومَ، ففرحَ بذلك كفارُ مكَّة وقالوا: الذين ليس لَهم كتابٌ غلبوا الذين لهم كتابٌ، وافتَخَروا بذلكَ على المسلمين وقالوا لَهم: نحنُ أيضاً نغلِبُكم كما غلبَتْ فارسُ الرومَ.
وقصَّة ذلكَ: أن كِسرَى ملكَ فارس أرسلَ شهريار إلى الرُّومِ، فسارَ إليهم بأهلِ فارسَ ليغزُوَهم، فظهرَ على الرومِ فقتلَهم وخرَّبَ مدائنَهم، وكان قيصرُ ملكُ الرومِ قد بعثَ بجيشٍ لَمَّا سَمِعَ بقدوم شهريارَ، فالتقيا بأَذْرُعَاتِ وَبُصْرَى وهي أدنَى الشَّام إلى أرضِ العرب والعجمِ، فغلبَت فارسُ الرومَ حتى انتزعوا بيتَ المقدسِ من الرومِ، وكان ذلك موضعُ عبادتِهم.
فبلغ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ بمكَّة فشُقَّ ذلك عليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يكرهُ أن يظهرَ الأُمِّيُّونَ من الْمَجُوسِ على أهلِ الكتاب من الرُّوم، وفَرِحَ بذلك كفارُ مكَّة وشَمَتُوا، فلَقُوا أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنَّكم أهلُ كتابٍ والنصَارَى أهلُ كتابٍ، وقد ظهرَ إخوانُنا من أهلِ فارس على إخوانِكم من أهلِ الرُّومِ، وإنَّكم إن قاتَلتُمونا لنظهرَنَّ عليكم، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هذه الآياتِ { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ }.
فخرجَ أبُو بكرٍ رضي الله عنه إلى الكفَّار وقال: (أفَرِحْتُمْ بظُهُور إخْوَانِكُمْ عَلَى إخْوَانِنَا؟! فَلاَ تَفْرَحُواْ وَلاَ يُقِرُّ اللهُ أعْيُنَكُمْ، فَوَاللهِ لَيَظْهَرَنَّ الرُّومُ عَلَى فَارسَ، أخْبَرَنَا بذلِكَ نَبيُّنَا) فَقَامَ إلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ وَقَالَ لَهُ: كَذبْتَ! فَقَالَ لَهُ أبُو بَكْرٍ: أنْتَ أكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللهِ) فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ: كَمَا غَلَبَتْ عَبَدَةُ النِّيْرَانِ أهْلَ الْكِتَاب، فَكَذلِكَ نَحْنُ نَغْلِبُكُمْ) وَاسْتَبْعَدَ الْمُشْرِكُونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَى فَارسَ لِشِدَّةِ شَوْكَةِ أهْلِ فَارسَ.
فَقَالَ أبُو بَكْرٍ لأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ: (أنَا أُرَاهِنُكَ عَلَى أنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ إلَى ثَلاَثِ سِنِيْنَ) فَرَاهَنَهُ أُبَيُّ عَلَى خَمْسٍ مِنَ الإبلِ، وَقِيْلَ: عَلَى عَشْرٍ مِنَ الإبلِ، (فَإنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارسَ غَرِمْتَ، وإنْ ظَهَرَتْ فَارسُ غَرِمْتُ أنَا) ثُمَّ جَاءَ أبُو بَكْرٍ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ، فََقَالَ صلى الله عليه وسلم:
"زدْ فِي الْخَطَرِ وَأبْعِدْ فِي الأَجَلِ" فَفَعَلَ ذلِكَ، وَجَعَلَ الأَجَلَ تِسْعَ سِنِيْنَ، وَكَانَ ذلِكَ قَبْلَ تَحْرِيْمِ الْقِمَار.
رُوي أنَّ النَّّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبي بَكْرٍ:
"إنَّمَا الْبضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلاَثِ إلَى التِّسْعِ. قََرَأ: زدْهُ فِي الْخَطَرِ وَمَادَّهُ فِي الأَجَلِ" فَخَرَجَ أبُو بَكْرٍ فَلَقِيَ أُبَيّاً فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ! فَقَالَ: أزيدُكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادُّكَ فِي الأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مِائَةَ قُلُوصٍ إلَى تِسْعِ سِنِيْنَ، قَالَ: قَدْ أخَافُ فَعَلْتُ.
فَلَمَّا خَشِيَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أنْ يَخْرُجَ أبُو بَكْرٍ مِنْ مَكَّةَ، أتَاهُ فَلَزِمَهُ وَقًَالَ أُبَيُّ: إنْ تَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ فَأَقِرَّ لِي كَفِيْلاً، فَكَفَلَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي بَكْرٍ، فَلَمَّا أرَادَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أنْ يَخْرُجَ إلَى أُحُدٍ، أتَاهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي بَكْرٍ فَلَزِمَهُ وَقَالَ: لاَ وَاللهِ لاَ أدَعُكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَفِيْلاً، فَأَعْطَاهُ كَفِيْلاً وَمَضَى إلَى أُحُدٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَمَاتَ بمَكَّةَ مِنْ جِرَاحَتِهِ الَّتِي جَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ بَارَزَهُ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارسَ يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ وَذِلكَ عَلَى رَأسِ تِسْعِ سِنِيْنَ مِنْ مُرَاهَنَتِهِمْ، وهذا قولُ أكثرِ المفسِّرين.
وقال أبو سَعيد الخدريُّ ومقاتلُ:
"لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَتَلَتِ الْمُسْلِمُونَ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَأتَّاهُمُ الْخَبَرُ أنَّ الرُّومَ قَدْ غَلَبَتْ فَارسَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بذلِكَ، وَغَلَبَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أُبَيّاً وَأخَذ مَالَ الْخَطَرِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَجَاءَ بهِ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بهِ" .
ومعنى الآيةِ: { غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } يعني الْجَزِيْرَةَ؛ وهي أقربُ أرضِ الرُّومِ إلى فارسَ، وقال عكرمةُ: (يَعْنِي أذْرُعَاتٍ وَكُسْكُرُ). وقولهُ { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } يعني الرومَ مِن بعد غَلَبَةِ فارسَ إيَّاهم سيغلبونَ فارس { فِي بِضْعِ سِنِينَ }؛ وهو ما بينَ الثلاثِ إلى العشرِ، فالتقَى الرومُ وفارس في السَّنة السابعة من غَلَبَةِ فارسَ إيَّاهم، فغلبتهم الرومُ، فجاء جبريلُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهزيْمة فارسَ وظهور الرُّوم عليهم، ووافقَ ذلك يومَ بدرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ }؛ أي قبلَ أنْ غُلبت الرومُ ومِن بعدِ ما غُلبت، يعني أنَّ غلبةَ أحدِ الفريقين الآخرَ، أيُّهما كان الغالبُ والمغلوب؛ فإنَّ ذلك كان بأمرِ الله تعالى وإرادته وقضائهِ وقدره.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ }؛ يعني بغلب الرومَ فارس، يفرحُ المؤمنون، { بِنَصْرِ ٱللَّهِ }؛ الرومَ على فارسَ، ويكون فرحُ المؤمنين يومئذٍ لظهور معجزة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإهلاكِ بعضِ الكفَّار بعضاً كما يفرحُ الصَّالحون بقتلِ الظَّالِمين بعضَهم بعضاً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ }؛ أي ينصرُ مُحَمداً صلى الله عليه وسلم على أعدائهِ، { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }؛ أي هو العزيزُ بالنَّقمةِ ممن عصاهُ، الرَّحِيْمُ بأوليائهِ وهم المؤمنونَ.