التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٣٢
-فاطر

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا }؛ قال مقاتلُ: (يَعْنِي الْقُرْآنَ)، وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } يريد أُمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثم قسَّمَهم ورتَّبَهم فقالَ تعالى: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ }؛ وهو الذي ماتَ على كِبْرِه ولم يَتُبْ عنها، { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ }؛ وهو الذي لَمْ يُصِبْ كبيرةً، { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ }؛ يعني المقرَّبين الذين سبَقُوا إلى أعمالٍ، وقال الحسنُ: (الظَّالِمُ: الَّذِي تَرَجَّحَ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابقُ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ).
وعن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ:
"سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: سَابقُنا سَابقٌ" أي إلى الجنَّة أو إلى رحمةِ الله تعالى بالخيراتِ؛ أي بالأعمال الصالحة، { بِإِذُنِ ٱللَّهِ }؛ أي بإرادةِ الله، { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }؛ معناهُ: إيراثُهم الكتابَ هو الفضلُ الكبير، وسُمي إعطاءُ الكتاب إيْرَاثاً لأنَّهم أُعْطُوهُ بغيرِ مسألةٍ ولا اكتساب.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُمْ قَالُواْ:
"السَّابقُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُونَ يُحَاسَبُونَ حِسَاباً يَسِيراً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَالظَّالِمُونَ يُحَاسَبُو مَا شَاءَ اللهُ أنْ يُحَاسَبُواْ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ للهِ الَّّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ..." إلى آخرِ الآيتَين.
وعن الحسنِ أنه قالَ: (السَّابقُ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أخَذ الْحَلاَلَ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لاَ يُبَالِي مِنْ أيْنَ أخَذ). ويقالُ: الظالِمُ صاحبُ الكبائرِ، والمقتصدُ صاحبُ الصَّغائرِ، والسَّابقُ الذي اتقى سيئاته.
فإنْ قيلَ ما الحكمةُ في تقديمِ الظالِم وتأخيرِ السابق؟ قِيْلَ: الواوُ لا توجِبُ الترتيبَ كما قالَ تعالى
{ { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [التغابن: 2]. وَقِيْلَ: قدَّمَ الظالِمَ لئَلاَّ ييأسَ من رحمتهِ، وأخَّرَ السابقَ لئَلا يُعجَبَ بنفسهِ. وَقِيْلَ: قدَّمَ الظالِمَ فإذا لَم يكن له شيءٌ يتَّكِلُ عليه إلاَّ رحمةُ الله تعالى، وثَنَّى بالمقتصدِ لِحُسنِ ظنِّهِ بربه. وَقِيْلَ: لأنه بين الخوفِ والرَّجاءِ، وأخَّرَ السابقَ لأنه اتَّكَلَ على حسَناتهِ. وَقِيْلَ: لئلا يأمَنَ أحدٌ مَكْرَهُ، وكلُّهم في الجنَّة بُحرَمِة كلمةِ الإخلاصِ.
وعن عُقبة بن صَهبان قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ } فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا السَّابقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالْجَنَّةِ، وَأمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبعَ أثَرَهُ مِنْ أصْحَابهِ حَتَّى لَحِقَ بهِ، وَأمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلَكَ). وقال سهلُ بن عبدِالله: (السَّابقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ).
وَقِيْلَ: السابقُ الذي اشتغلَ بمَعادهِ، والمقتصدُ بمعَادهِ ومعاشهِ، والظالِمُ الذي اشتغلَ بمعاشهِ عن معادهِ. وَقِيْلَ: الظالِمُ طالِبُ الدُّنيا، والمقتصدُ طالبُُ العُقبَى، والسابقُ طالب المولَى. وَقِيْلَ: الظالِمُ الْمُرائِي في جميعِ أفعالهِ، والمقتصدُ المرائِي في بعضِ أفعالهِ دون بعضٍ، والسابقُ المخلِصُ في أفعالهِ كلِّها. وَقِيْلَ: الظالِمُ مَن كان ظاهرهُ خيراً من باطنهِ، والمقتصدُ من استوَى ظاهرهُ وباطنه، والسابقُ الذي باطنهُ خيرٌ من ظاهرهِ. وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يجزَعُ عند البلاءِ، والمقتصدُ الذي يصبرُ عند البلاءِ، والسابقُ الذي يتلَذذُ بالبلاءِ!
وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يَعبدُ اللهَ خَوفاً من النار، والمقتصدُ الذي يعبدهُ طَمعاً في الجنَّة، والسابقُ الذي يعبدهُ لا لسببٍ من الأسباب إلاَّ لرحمتهِ الكريم! وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يعبدُ اللهَ على الغفلةِ، والمقتصدُ الذي يعبدهُ على الرَّغبةِ, والسابقُ الذي يعبدهُ على الهيبةِ. وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي أُعطِيَ فمنعَ، والمقتصدُ الذي أُعطِيَ فبذلَ، والسابقُ الذي أُعطِيَ فشَكرَ.
وَقِيْلَ: الظالِمُ غافلٌ، والمقتصدُ طالبٌ، والسابقُ واصلٌ. وَقِيْلَ: الظالِم مَن استغنَى بمالهِ، والمقتصدُ من استغنَى بدينهِ، والسابقُ مَن استغنَى بربه. وَقِيْلَ: السابقُ الذي يدخلُ المسجدَ قبلَ الأذانِ، والمقتصدُ الذي يدخلُ وقتَ الأذانِ، والظالِمُ الذي يدخلُ وقتَ أُقِيمَتِ الصلاة! وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يحبُّ نفسَهُ، والمقتصدُ الذي يحب دِينَهُ، والسابقُ الذي يحبُّ ربَّهُ. وَقِيْلَ: الظالِمُ مدعوٌّ، والمقتصد مأذونٌ له، والسابق مقرَّبٌ.