التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ
١٠٢
-الصافات

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ }؛ أي فلمَّا بلغَ ذلك الغلامُ معه حالةَ السَّعيِ في طاعةِ الله تعالى، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: { { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ } [البقرة: 127]، وَقِيْلَ: معناهُ: فلما بلغَ أن يمشِي معه، وقال مجاهدُ: (لَمَّا شَبَّ حَتَّى بَلَغَ أنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ وَيُعِينَهُ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ سَنَةً). وَقِيْلَ: أرادَ بالسَّعي في الوقتِ الذي ينتفعُ الوالدُ بالولدِ في قضاءِ حوائجه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ }؛ أي رأيتُ في المنامِ رُؤيا تأويلُها أنِّي أذبَحُكَ، وَقِيْلَ: رأيتُ في المنامِ أنِّي أذبَحُكَ، قال مقاتلُ: (رَأى إبْرَاهِيمُ ذلِكَ فِي الْمَنَامِ ثَلاَثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ)، قال ابنُ جبير: (رُؤْيَا الأَنْبيَاءِ وَحْيٌ)، وقال قتادةُ: (رُؤَى الأَنْبيَاءِ حَقٌّ، إذا رَأَوا شَيْئاً فَعَلُوهُ).
وقولهُ تعالى: { فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ }؛ أي مِن الرأيِ فيما ألقيتُ إليكَ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: (مَاذا تُرِي) بضمِّ التاء وكسرِ الراء، ومعناهُ: ماذا تُشِيرُ وماذا تُرِيني من صَبرِكَ أو جَزَعِكَ؟ { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ }؛ به من ذبحِي، { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ }؛ على بَلائهِ، وإنما قالَ له إبراهيمُ هذا القولَ مع كونهِ مأمُوراً بذبحهِ؛ لأنه أحبَّ أن يعلمَ صبرَهُ وعزيمتَهُ على أمرِ الله وطاعته.
وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّ إبراهيمَ كان مأمُوراً بذبحِ ولَدهِ، لأن رُؤيَا الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وَحْيٌ بمنْزِلة الوحيِ إليهم في اليقظَةِ، ولذلك قالَ الابنُ: { يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } ولَم يقل: افعل ما رأيتَ في المنامِ.
واختلَفُوا في الذبيحِ مَن هو؟ فذهبَ الأكثَرون إلى أنه إسحاقُ، وإليه ذهبَ من الصَّحابة عمرُ بن الخطَّاب وعليُّ بن أبي طالبٍ وعبدُالله بن مسعودٍ وعبَّاسُ بن عبدِالمطَّلب، ومِن التابعين كعبُ الأحبار وسعيدُ بن جبير وقتادةُ ومسروق وعكرمة وعطاءُ ومقاتل والزهريُّ والسدي.
وقال آخرُونَ: هو إسماعيلُ، وهو قولُ ابنِ عمر وابنِ عبَّاس وسعيدِ بن المسيَّب والشعبيِّ والحسن ومجاهدٍ والكلبيِّ والربيع بن أنسٍ ومحمَّد بن كعب القُرَظِيِّ. وروُي عن أبي إسحاق الزجَّاج أنه قال: (اللهُ أعْلَمُ أيُّهُمَا الذبيحُ).
وسياقُ الآيةِ يدلُّ على أنه إسحاق؛ لأنه تعالَى قال
{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } [الصافات: 101] ولا خلافَ أنه إسحاقَ، ثم قالَ: فلما بلغَ معه السعيَ، فعطفَ بقصَّة الذبحِ مع ذكر اسحاق، وقد رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم القولانِ، ورُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الَّذِي أرَادَ إبْرَاهِيمُ ذبْحَهُ هُوَ إسْحَاقُ" .
وعن معاويةَ رضي الله عنه أنه قالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عُدَّ عَلَيَّ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ الذبيحَيْنِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ مُعَاويَةُ وَمَنِ الذبيحَانِ؟ فَقَالَ: [إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِب لَمَّا حَفَرَ زَمْزَمَ نَذرَ للهِ تَعَالَى لَئِنْ سَهَّلَ اللهُ أمْرَهُ لَيَذْبَحَنَّ أحَدَ وَلَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِاللهِ، فَمَنَعَهُ أخْوَالُهُ وَقَالُواْ: إفْدِ ابْنَكَ بمِائَةٍ مِنَ الإبلِ، فَفَدَاهُ بمِائَةٍ مِنَ الإبلِ، وَالذبيحُ الثَّانِي إسْمَاعِيلُ]، ويدلُّ على صحَّة هذا قولهُ عليه السلام: "أنَا ابْنُ الذبيحَيْنِ" يريدُ أباهُ الأدنَى عبدُالله بن عبدِالمطَّلب وجدُّهُ إسماعيلُ.
وقال محمَّد بن كعب القُرظي: (إنَّ الَّذِي أمَرَ اللهُ إبْرَاهِيمَ بذبْحِهِ من بَنِيهِ إسْمَاعِيلُ، وَإنَّا لَنَجِدُهُ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى، إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ حِينَ فَرَغَ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ:
{ { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الصافات: 112]).
وقال الأصْمعيُّ: (سَأَلْتُ أبَا عَمْرٍو بْنِ العَلاَءِ عَنِ الذبيحِ هَلْ هُوَ إسْمَاعِيلُ أوْ إسْحَاقُ؟ فَقَالَ: يَا أصْمَعِيُّ أيْنَ ذهَبَ مِنْكَ عَقْلُكَ؟! وَأيْنَ كَانَ إسحاق؟ وَإنَّمَا كَانَ إسْمَاعِيلُ بمَكَّةَ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أبيهِ كَمَا قَالَ
{ { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ } [البقرة: 127]، وَالنَّحْرُ بمَكَّةَ لاَ شَكَّ فِيْهِ). وسُئل أبو سعيدٍ الضَّرير عن الذبيحِ فأنشدَ:

إنَّ الذبيحَ هُدِيتَ إسْمَاعِيلُ نَطَقَ الْكِتَابُ بذاكَ وَالتَّنْزِيلُ
شَرَفٌ بهِ خَصَّ الآلَهُ نَبيَّهُ وَأتَى بهِ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْويلُ

وأما قصَّةُ الذبحِ فقال السديُّ: (لَمَّا فَارَقَ إبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ مُهَاجِراً إلَى الشَّامِ هَارباً بدِينِهِ، دَعَا اللهَ تَعَالَى أنْ يَهَبَ لَهُ مِنْ سَارَةَ ابْناً صَالِحاً، فَقَالَ: (رَب هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بغُلاَمٍ حَلِيمٍ) وَهُوَ اسْحَاقُ). قال السديُّ: (فَهُوَ وَاللهِ إسْحَاقُ الذبيحُ). وقال محمَّد بن كعبٍ: (هُوَ إسْمَاعِيلُ).
فلمَّا أمرَ اللهُ إبراهيمَ بذبحِ مَن أمَرَ، قالَ لابنه: يا بُنَيَّ خُذِ الحبلَ والْمُديَةَ وانطلِقْ بنا إلى هذا الشِّعب لنَحتَطِبَ، فلمَّا خلاَ إبراهيمُ بابنهِ في شِعب ثَبيرٍ قالَ له: { إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } قالَ: يا أبتِ افعل ما تُؤمَرُ واشدُدْ ربَاطِي حتى لا أضطربَ، واكفُفْ ثيابَكَ عني حتى لا ينضحَ عليها شيءٌ من دمِي فينقُصَ أجرِي وتراهُ أُمِّي فتحزنَ، واستحِدَّ شَفرتَكَ وأسرِعْ حدَّ السكِّين على حلقِي حتى تجسُرَ عليَّ فتذبَحني ليكون أهون عليَّ، فإن الموتَ شديدٌ، وإذا أتيتَ أُمِّي فأقرِئها منِّي السلامَ، فإن رأيتَ أن ترُدَّ إليها قميصِي فافعَلْ، فإنه عسَى أن يكون أسْلاَ لَها عني.
فقالَ إبراهيمُ: نِعْمَ العونُ أنتَ يا بُنيَّ على أمرِ الله، فأقبَلَ عليه يُقَبلُهُ وقد ربطَهُ وهو يبكِي، والابنُ يبكي حتى استفرغَ الدموعَ تحت خدِّهِ، ثم إنه وضعَ السكِّين في حلقهِ فلم تعمل في حلقهِ شيئاً.
قال السديُّ: (ضربَ اللهُ تعالى في حلقهِ صفحةً من نحاسٍ فلم تقطَعِ السِّكينُ شيئاً، فقالَ الابنُ عندَ ذلك: يا أبتِ كبَّني على وجهِي فإنَّكَ إذا نظرتَ في وجهِي رحِمتَني وأدركَتْكَ الرِّقَّةُ فتحولَ بينكَ وبين اللهِ تعالى، ففعلَ ذلك إبراهيمُ، ثم وضعَ السكِّين على قفاهُ فانقلبت السكينُ.
ونادَى أن يا إبراهيمُ قد صدَّقتَ الرُّؤيا هذه ذبيحتُكَ فداءً لابنِكَ فاذبَحها دونَهُ، فنظرَ إبراهيمُ فإذا هو جبريلُ عليه السلام ومعه كبشٌ أقرن أملَحٌ، فكبَّرَ جبريلُ عليه السلام وكبَّرَ إبراهيمُ وكبَّر ابنهُ، فأخذ إبراهيمُ الكبشَ وأتَى به المنحرَ من مِنَى فذبحَهُ، فلما ذبحَ إبراهيمُ الكبشَ رجع إلى إبنهِ فجعلَ يقولُ له: يا بُنيَّ قد وهبَكَ اللهُ لي، ثُم رجعَ إلى أُمِّه فأخبرَها الخبرَ فجَزِعت وقالت: يا إبراهيمُ أردتَ أن تذبحَ ولَدِي ولا تُعلِمني.
وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: (لَمَّا رَأى إبْرَاهِيمُ ذبْحَ ابْنِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: وَاللهِ لَئِنْ لَمْ تزِلَّ آلَ إبْرَاهِيمَ فِي هَذا الأَمْرِ لاَ بَقِيت استَزِلَّ مُنْهُمْ أحَداً، فَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ رَجُلاً وَأتَى الْوَلَدَ فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَدْري أيْنَ يَذْهَبُ بكَ أبُوكَ؟ قَالَ: نَعَمْ نَحْتَطِبُ لأَهْلِنَا حَطَباً مِنْ هَذا الشِّعْب، قَالَ: وَاللهِ مَا يُرِيدُ إلاَّ أنْ يَذْبَحَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أنَّ رَبَّهُ أمَرَهُ بذبْحِكَ، قَالَ: فَلْيَفْعَلْ مَا أمَرَهُ بهِ رَبُّهُ، فَسَمْعاً وَطَاعَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَرَجَعَ الشَّيْطَانُ إلَى أُمِّ الْوَلَدِ فَقَالَ لَهَا: أتَدْرينَ أيْنَ ذهَبَ إبْرَاهِيمُ بابْنِكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ ذهَبَا يَحْتَطِبَانِ، قَالَ: لاَ وَاللهِ مَا ذهَبَ بهِ إلاَّ لِيَذْبَحَهُ، قَالَتْ: كَلاَّ هُوَ أرْحَمُ بهِ وَأشَدُّ حُبّاً لَهُ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: إنَّهُ زَعَمَ أنَّ اللهَ أمَرَهُ بذلِكَ، قَالَتْ: فَإنْ كَانَ رَبُّهُ قَدْ أمَرَهُ بذلِكَ فَقَدْ أحْسَنَ فِي امْتِثَالِ أمْرِ رَبهِ.
فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ عِنْدِهَا حَتَّى أتَى إلى إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَقَالَ: أيْنَ تُرِيدُ أيُّهَا الشَّيْخُ؟ قَالَ: أُريدُ هَذا الشِّعْبَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: إنِّي وَاللهِ لأَدْري الشَّيْطَانَ قَدْ جَاءَكَ فِي مَنَامِكَ فَأَمَرَكَ بذبْحِ ابْنِكَ هَذا، فَعَرَفَهُ إبْرَاهِيمُ وَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللهِ لأَمْضِيَنَّ لأَمْرِ رَبي. فَرَجَعَ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ بغَيْظِهِ وَلَمْ يُصِبْ مِنْ آلِ إبْرَاهِيِمَ شَيْئاً مِمَّا أرَادَ).