التفاسير

< >
عرض

يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
١٧١
-النساء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ }؛ نزلَت في نصارَى نَجْرَانَ وهم: النَّسْطُوريِّةُ: الذين يقولونَ عيسى ابنُ الله، وَالْمَارْيَعْقُوبيَّةُ: الذين يقولون عيسى هو اللهُ، وَالْمَرْقُوسِيَّةُ: الذين يقولون ثالثُ ثلاثةٍ؛ ويقال هم الْملكانيَّة. ومعنى الآيةِ: يَا أهْلَ الْكِتَاب لاَ تُجَاوزُوا الحدِّ في الدينِ فتغيِّروا فيه. والغُلُوُّ في الدينِ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فيهِ، وقد غَلَتِ النصارى في أمرِ عيسى حتى جَاوَزُوا به مَنْزِلَةَ الأنبياءِ فجعلوهُ إلَهاً.
ويقالُ: إنَّ الآيةَ خطابٌ لليهودِ والنصارى؛ لأنَّ اليهودَ أيضاً غَلَوا في أمرِ عيسَى حتى جَاوَزُوا به مَنْزِلَةَ مَنْ وُلِدَ على غيرِ الطَّهارةِ فجعلوهُ لغيرِ رُشْدِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي لا تَصِفُوا اللهَ إلاّ بالحقِّ، والحقُّ أن يقالَ: إلَهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ، وينَزِّهُهُ عن القبائحِ والنَّقَائصِ وعن جميعِ صفاتِ الْمُحْدَثِيْنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ }؛ أي ليسَ المسيحُ إلاَّ رَسُولَ اللهِ؛ لأن (إنَّمَا) تقتضِي تحقيقَ المذكور وتَمحِيْقَ ما سواهُ، كقولهِ تعالى: { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }، وفي قولهِ: { عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } بيانٌ أنهُ لا يجوز أن يكونَ إلَهاً؛ أي كيفَ يكون إلَهاً وهو ابنُ مَرْيَمَ أمَةُ اللهِ؟ وكيفَ يكون إلَهاً وَأُمُهُ قَبْلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ }؛ أي إنهُ كان بكلمتهِ عَزَّ وجَلَّ وهو قولهُ: (كُنْ) فَكَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَرُوحٌ مِّنْهُ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أمْرٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ أتَاهَا جِبْرِيْلُ بأَمْرِ اللهِ فَنَفَخَ فِي جَيْب دِرْعِهَا؛ فَدَخَلَتْ تِلْكَ الْنَّفْخَةُ بَطْنَهَا؛ فَخَلَقَ اللهُ عِيْسَى بنَفْخَةِ جِبْرِيْلَ عليه السلام). والنَّفْخُ في اللغة: يُسَمَّى رُوْحاً. وَقِيْلَ: سَمَّاهُ اللهُ تعالى رُوْحاً؛ لأنه كان يُحْيي بهِ الناسَ في الدينِ كما يُحْيَوْنَ بالأرواحِ. وَقِيْلَ: لأنه رُوْحٌ مِن الأرواحِ أضافَهُ اللهُ إليهِ تشريفاً لهُ، كما يقالُ: بَيْتُ اللهِ. وقال السُّدِّيُّ: (مَعْنَاهُ (وَرُوحٌ مِنْهُ) أيْ مَخْلُوقٌ مِنْهُ؛ أيْ مِنْ عِنْدِهِ).
وَقِيْلَ: معناهُ: ورحمةٌ منهُ؛ أي جعله اللهُ رحمةً لمن آمَنَ بهِ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22] أي قَوَّاهُمْ برحمةِ منهُ. وَقِيْلَ: الرُّوحُ: الوَحْيُ؛ أوْحَى إلى مَرْيَمَ بالْبشَارَةِ، وأوحَى إلى جبريلَ بالنَّفْخِ، وأوحَى إليه أن كُنْ؛ فَكَانَ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى: { { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ } [النحل: 2] أي بالوحْيِ، { { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] أي وَحْياً.
ورويَ: أنَّهُ كَانَ لِهَارُونَ الرَّشِيْدِ طَبيْبٌ نَصْرَانِيٌّ، وَكَانَ غُلاَماً حَسَنَ الْوَجْهِ جِدّاً، وَكَانَ كَامِلَ الأَدَب جَامِعاً لِلْخِصَالِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بهَا إلَى الْمَلِكِ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ مُولَعاً بأَنْ يُسْلِمَ وَهُوَ يَمْتَنِعُ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ يُمَنِّيْهِ الأَمَانِيَّ إنْ أسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ ذاتَ يَوْمٍ: مَا لَكَ لاَ تُؤْمِنُ؟ قَالَ: إنَّ فِي كِتَابكُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ انْتَحَلَهُ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } فَعَبَّرَ بهَذا أنَّ عِيْسَى جُزْءٌ مِنْهُ.
فَضَاقَ قَلْبُ الرَّشِيْدِ، وَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ فَلَمْ يَكُنْ فِيْهِمْ مَنْ يُزِيْلُ شُبْهَتَهُ حَتَّى قِيْلَ لَهُ: قَدْ وَفَدَ حُجَّاجُ خُرَاسَانَ وَفِيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ مِنْ أهْلِ مَرُو؛ وَهُوَ إمَامٌ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ؛ فَدَعَاهُ؛ فَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُلاَمِ، فَسَأَلَهُ الْغُلاَمُ عَنْ ذلِكَ، فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ: قَدْ عَلِمَ اللهُ؛ يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ؛ فِي سَابقِ عِلْمِهِ أنَّ الْخَبيْثَ يَسْأَلُنِي فِي مَجْلِسِكَ عَنْ هَذا؛ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ كِتَابَهُ مِنْ جَوَابهِ، وَأنَّهُ لَيْسَ يَحْضُرُنِي الآنَ، وَللهِ عَلَيَّ أنْ لاَ أطْعَمَ وَلاَ أشْرَبَ حَتَّى أُؤَدِّيَ الَّذِي يَجِبُ مِنَ الْحَقِّ إنْ شَاءَ اللهُ.
وَدَخَلَ بَيْتَهُ مُظْلِماً؛ وأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ؛ وَانْدَفَعَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ حَتَّى بَلَغَ سُورَةَ الْجَاثِيَةِ إلَى قَوْلِهِ:
{ { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية: 13] فَصَاحَ بَأَعْلَى صَوْتِهِ: افْتَحُواْ الْبَابَ؛ فَقَدْ وَجَدْتُ الْجَوَابَ، فَفَتَحُواْ وَدَعَا الْغُلاَمَ؛ فَقَرَأ عَلَيْهِ الآيَةََ بَيْنَ يَدَي الرَّشِيْدِ وَقَالَ: إنْ كَانَ قَوْلُهُ { رُوحٌ مِّنْهُ } يُوجِبُ أنْ يَكُونَ عِيْسَى بَعْضاً مِنْهُ؛ وَجَبَ أنْ يَكُونَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ بَعْضاً مِنْهُ.
فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَأَسْلَمَ؛ وَفَرِحَ الرَّشِيْدُ فَرَحاً شَدِيْداً، وَوَصَلَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بصِلَةٍ جَيِّدَةٍ. فَلَمَّا عَادَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إلَى مَرُو؛ صَنَّفَ كِتَاباً سَمَّاهُ (كِتَابُ النَّظَائِرِ فِي الْقُرْآنِ) وَهُوَ كِتَابٌ لاَ يُوَازِيْهِ كِتَابٌ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ }؛ أي صدَّقوا بوحدانيَّة اللهِ بما جاءَكم به الرُّسُلُ من الله؛ { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ }؛ أي تقُولُوا آلِهَتُنَا ثلاثةٌ: أبٌ؛ وابنٌ؛ وروحُ قدسٍ، { ٱنتَهُواْ }؛ عنِ الكُفْرِ، عن هذهِ المقالةِ، وتُوبُوا إلى اللهِ هُوَ؛ { خَيْراً لَّكُمْ }؛ من الإصرار على الكُفْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }؛ أي ما اللهُ إلاَّ إلهٌ واحدٌ؛ { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ }؛ كلمةُ تَنْزِيْهٍ عن السُّوءِ؛ أي تَنْزِيْهاً لهُ أنْ يكون له ولدٌ؛ { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }؛ كلُّهُم عَبيْدُهُ وإمَاؤُه وفي قبضتهِ؛ ويستحيلُ أن يكون الْمَمْلُوكُ ابْناً لِلْمَالِكِ؛ أي لا يجتمعُ الْمِلْكُ مع الولادةِ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [مريم: 92-93]. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }؛ أي اكتَفُوا برُبُوبيَّتِهِ وبكفالَتِه، فلا ولدَ لهُ ولا شريكَ؛ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمَّا يقولُ الظالِمُون عُلُوّاً كَبيْراً.