التفاسير

< >
عرض

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوۤاْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
٩١
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
٩٢
-النساء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ }؛ معناهُ: ستجدون قَوماً آخرينَ يريدون أن يَأَمَنُوكُمْ، أي يُظهرون لكم الصُّلْحَ، يريدونَ أنْ يأْمنُوكم بكلمةِ التَّوحِيدِ، يُظهرونَها لكم، { وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ }؛ أي ويأمَنُوا من قومِهم بالكفرِ في السرِّ، { كُلَّ مَا رُدُّوۤاْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا }؛ كلَّما دُعُوا إلى الكُفْرِ رَجَعُوا فيهِ.
قال ابنُ عبَّاس: (هُمْ أسَدُ وَغَطَفَانُ؛ كَانَوا حَاضِري الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بالإسْلاَمِ وَهُمَا غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ قَوْمُهُ: بمَاذا آمَنْتَ؟ وَلِمَاذا أسْلَمْتَ؟ فَيَقُولُ: آمَنْتُ برَب العُودِ، وَبرَبِّ الْعَقْرَبِ وَبربِّ الْخَنْفُسَاءِ. يُرِيْدُونَ بهِ الاسْتِهْزَاءَ، فَإذا لَقُواْ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ قَالُواْ: إنَّا عَلَى دِيْنِكُمْ؛ وَأظْهَرُواْ الإسْلاَمَ، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِيْنَ عَلَى ذلِكَ بهَذِهِ الآيَةِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ }؛ أيْ فانْ لَمْ يتركوا قتالكم ولَمْ يَستَدِيموا لكم في الصُّلْحِ، ولَمْ يَمنعوا أيديَهم عن قتالِكم، { فَخُذُوهُمْ }؛ أي إسِرُوهُمْ، { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ }؛ أي حيث وَجَدْتُمُوهُمْ، { وَأُوْلَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }؛ أي أهل هذه الصفة جعلنا لكم عليهم حجة ظاهرة بالقتال معهم، قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } أي ما كانَ لِمؤمنٍ في حُكْمِ اللهِ أن يَقْتُلَ مؤمناً بغيرِ حقٍّ إلاَّ أن يكونَ وُقُوعُ القتلِ منه على وجهِ الخطأ، وهو ألاَّ يكونَ قاصداً قَتْلَهُ فيكونُ مرفوعَ الإثْمِ والعقاب.
واختلفَ المفسِّرون فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ؛ قال ابنُ مسعودٍ: (فِي عَيَّاشِ بْنِ رَبيْعَةَ الْمَخْزُومِيِّ؛ أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ فَأَسلَمَ مَعَهُ، فَخَافَ أنْ يَعْلَمَ أهْلُهُ بإسْلاَمِهِ، فَخَرَجَ هَارباً إلَى الْمَدِيْنَةِ؛ فَاخْتَفَى فِي جَبَلٍ مِنْ جِبَالِهَا؛ فَجَزِعَتْ أمُّهُ جَزَعاً شَدِيْداً حِيْنَ بَلَغَهَا إسْلاَمُهُ وَخُرُوجُهُ إلَى الْمَدِيْنَةِ؛ فَقَالَتْ لأَبيْهَا الْحُرَيْثِ وَأبي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ - وَهُمَا أخَوَاهُ لأُمِّهِ -: وَاللهِ لاَ يُظِلُّنِي سَقْفٌ وَلاَ أذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً حَتَّى تَأْتُونِي بهِ، فَخَرَجَا فِي طَلَبهِ، وَخَرَجَ مَعَهُمَا الْحَرْثُ بْنُ زَيْدٍ حَتَّى أتَيَا الْمَدِيْنَةَ، فَوَجَدَا عَيَّاشاً فِي أطَمٍ - أيْ جَبَلٍ - فَقَالاَ لَهُ: إنْزِلْ؛ فَإنَّ أمَّكَ لَمْ يَأْوهَا سَقْفُ بَيْتٍ بَعْدَكَ، وَقَدْ حَلَفَتْ لاَ تَأْكُلُ طَعَاماً وَلاَ تَشْرَبُ شَرَاباً حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهَا، وَلَكَ عَلَيْنَا ألاَّ نُكْرِهَكَ عَلَى شَيْءٍ؛ وَلاَ نَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ دِيْنِكَ، فَحَلَفُواْ لَهُ عَلَى ذلِكَ فَنَزَلَ إلَيْهِمْ، فَأَوْثَقُوهُ بنِسْعَةٍ ثُمَّ جَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.
ثُمَّ قَدِمُواْ بهِ عَلَى أمِّهِ، فَلَمَّا أتَاهَا قَالَتْ لَهُ: وَاللهِ لاَ أحِلُّكَ مِنْ وثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بالَّذِي آمَنْتَ بهِ، ثُمَّ تَرَكُوهُ مَطْرُوحاً مَوْثُوقاً فِي الشَّمْسِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أعْطَاهُمُ الَّذِي أرَادُوا، فَأَتَاهُ الْحُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَيَّاشُ؛ هَذا الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ الْهُدَى لَقَدْ تَرَكْتَ الْهُدَى، وَلَئِنْ كَانَ ضَلاَلَةً لَقَدْ كُنْتَ عَلَيْهَا، فَغَضِبَ عَيَّاشُ مِنْ مَقَالَتِهِ، قَالَ: واللهِ لاَ ألْقَاكَ خَالِياً إلاَّ قَتَلْتُكَ.
ثمَّ إنَّ عَيَّاشاً أسْلَمَ بَعْدَ ذلِكَ، وَهَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِيْنَةِ، ثُمَّ أسْلَمَ بَعْدَ ذلِكَ الْحُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، ولَمْ يَعْلَمْ عَيَّاشُ بإسْلاَمِهِ، فَبَيْنَمَا عَيَّاشُ يَسِيْرُ بظَهْرِ قِبَاءَ إذْ لَقِيَ الْحُرَيْثَ بْنَ زَيْدٍ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: وَيْحَكَ يَا عَيَّاشُ! إنَّهُ قَدْ أسْلَمَ، فَرَجَعَ عَيَّاشُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَدْ كَانَ مِنْ أمْرِي وَأمْرِ الْحُرَيْثِ مَا عَلِمْتُ؛ وَإنِّي لَمْ أعَلْمَ بإسْلاَمِهِ حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ }؛ أي ما كان لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً الْبَتَّةَ إلاَّ خَطَأً ولا عمداً بحالٍ، لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً على غيرِ قصدٍ، أو قَتَلَهُ على ظنِّ أنهُ مُبَاحُ الدَّمِ فعليه عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمنةٍ في مالهِ، وعليه وعلى عَاقِلَتِهِ تسليمُ دِيَّةٍ كاملةٍ إلى أولياء المقتولِ، ويكونُ القاتلُ كواحدٍ من العاقلةِ، وإذا لم يكن به عاقلةٌ كانت الديَّةُ في بيتِ المال في ثلاثِ سنين. قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ }؛ معناهُ: إلاّ أن يَتَصَدَّقَ أولياءُ المقتولِ، فيتركُوا الديَّةَ ويعفُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ }؛ أي إن كانَ المقتولُ خطأً من قومِ حَرْبٍ لكم، فَقُتِلَ في دار الحرب وهو مؤمنٌ أسلمَ في دار الحرب ولم يهاجر حتى قُتِلَ، فعلى قَاتِلِهِ عِتْقُ رقبةٍ مؤمنة، ولم يذكرِ الديَّة لأن دمَ المقتولِ لا قيمةَ لهُ، إذْ لَمْ يُحْرِّزْ نَفْسَهُ بدَار الإسْلاَمِ، وَلَيْسَ هو فِي صُلْحِ الْمُسْلِمِيْنَ. وَقِيْلَ: إنَّما لم يَذْكُرِ الديَّة؛ لِئَلاَّ يُسَلِّمَ إلى أهلِ الحرب ديَةً فَيَقْوَوْنَ بها عَلَيْنَا، وهذا القولُ يقتضي أنَّ الديَّةَ واجبةٌ، إلاّ أنَّها لا تُسَلَّمُ إليهم. وفي وجوب هذه الديَّةِ خلافٌ بين العلماءِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ }؛ أي إن كان المقتولُ خطأً من قومٍ بينَكم وبينَهم عهدٌ أو صُلْحٌ، فعلَى القاتلِ وعاقلته تَسْلِيْمُ ديَّةٍ كاملةٍ إلى أولياءِ المقتولِ، وعلى القاتلِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمنةٍ. والفائدةُ في إعادةِ ذكر المؤمنة: أنه لو لَمْ يُعِدْ ذكرَها لكان يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أنه لَمَّا وجبَ في المؤمنِ رقبةٌ في مثل صفتهِ تجبُ أيضاً قي قتلِ الكافر رقبةٌ في مثل صفةِ المقتُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ }؛ أي من لم يَجِدْ رقبةً مؤمنة، فعليهِ صيامُ شهرين متوالِيَين لا يفصلُ بين صيامِهما. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ }؛ أي اعْمَلُوا ما أمرَكم اللهُ به للتوبةِ يَتُوبُ اللهُ عليكم، وهذا نُصِبَ على ما يقالُ: فعلتُ كذا حَذراً من الشِّراء.
وإنَّما سُميت الكفارةُ توبةً؛ لأن قاتلَ الخطأ كان عَاصِياً في سبب القتلِ من حيثُ إنه لَمْ يَحْتَرِزْ، وإن لم يكن عاصِياً في نفسِ القتل. ويقالُ: معنى التَّوْبَةِ: التَّوْسِعَةُ والتخفيفُ من اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }؛ أي عَلِيْمٌ بكُلِّ شيءٍ حَكِيْمٌ بما يأمرُكم به من الديَّةِ والكفَّارةِ، وقال بعضُهم: نَزَلَتْ الآية في أبي الدَّرْدَاءِ حينَ قَتَلَ رَاعِياً خطأً.