التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً
٩٣
-النساء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا }؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ خَبَابَةَ؛ وَجَدَ أخَاهُ قَتِيْلاً فِي بَنِي النَّجَّار؛ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ بَنِي فِهْرٍ، وَقَالَ لَهُ: "إئْتِ بَنِي النَّجَار فَأَقْرِئْهُمْ مِنِّي السَّلاَمَ؛ وَقُلْ لَهُمْ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأَمُرُكُمْ إنْ عَلِمْتُمْ قَاتِلَ هِشَامَ أنْ تَدْفَعُوهُ إلَى مَقِيْسٍ يَقْتَصُّ مِنْهُ، وَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا لَهُ قَاتِلاً أنْ تَدْفَعُواْ إلَيْهِ دِيَّتَهُ" فَأَبْلَغَهُمُ الْفِهْرِيُّ ذلِكَ، فَقَالُواْ: سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ؛ وَاللهِ مَا نَعْلَمُ لَهُ قَاتِلاً؛ وَلَكِنَّا نُؤَدِّي دِيَتَهُ، فَأَعْطَوْهُ مَائِةً مِنَ الإبلِ، وَانْصَرَفَا رَاجِعَيْنِ نَحْوَ الْمَدِيْنَةِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِيْنَةِ قَرِيْبٌ، فَوَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إلَى مِقْيَسٍ وَقَالَ لَهُ: أيُّ سَبَبٍ صَنَعْتَ بقَبُولِ دِيَّةِ أخِيْكَ فَتَكُونَ عَلَيْكَ سُبَّةٌ، أقْتُلِ الَّذِي مَعَكَ تَكُونُ نَفْسٌ مَكَانَ نَفْسٍ وَفَضْلَ الدِيَّةِ، فَرَمَى الْفِهْرِيَّ بصَخْرَةٍ فَشَدَخَ رَأَسَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيْراً مِنْهُمَا وَسَاقَ بَقِيَّتَهَا رَاجِعاً إلَى مَكَّةَ كَافِراً، وَجَعَلَ يَقُولُ:

قَتَلْتُ بهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ سُرَاةَ بَنِي النَّجَّار وَأرْبَابَ فَارعِ
فَأَدْرَكْتُ ثَأْري وَاضْطَجَعْتُ مُوسَّداً وَكُنْتُ إلَى الأَوْثَانِ أوَّلَ رَاجِعِ

فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ، وَقُتل مِقيَسُ يومَ فتحِ مكَّة.
ومعناها: ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً في قلتهِ مُسْتَحِلاًّ لَهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيْهَا باستحْلالهِ لَهُ وارتدادهِ عن إسلامهِ، { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }؛ بقَتْلِهِ غيرَ قاتلِ أخيهِ؛ { وَلَعَنَهُ }؛ أي بَاعَدَهُ من رحمتهِ، { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }؛ بجُرْأتِهِ على اللهِ بقتلِ نفسٍ بغير حقٍّ.
واختلفَ الناسُ في حُكْمِ هذه الآيةِ، قالتِ الخوارجُ والمعتزلة: (إنَّهَا فِي الْمُؤْمِنِ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً، وَهَذا الْوَعِيْدُ لاَحِقٌ بهِ). وقالت المرجئةُ: (إنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِناً، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً فَإنَّهُ لاَ يُخَلَّدُ فِي النَّار).
وقالت طائفةٌ من أصحاب الحديث: كُلُّ مُؤْمِنٍ قَتَلَ مُؤْمِناً فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّار غَيْرَ مُؤَبَّدٍ يُخْرَجُ بشَفَاعَةِ الشَّافِعِيْنَ، وَزَعَمَتْ: أنَّهُ لاَ تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.
والصحيحُ: أنَّ المؤمنَ إذا قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً لا يَكْفُرُ بذلك ولا يخرجُ من الإيْمانِ؛ إلاَّ إذا فَعَلَ ذلك مُسْتَحِلاً لهُ، فإنْ أقِيدَ بمن قتلَه فذلك كفارةٌ له، وإن كان تائِباً من ذلك ولم يكن مُعَاداً كانت التوبةُ أيضاً كفَّارةً له، فإنْ ماتَ بلا توبةٍ ولا قَوْدٍ فأمرهُ إلى الله؛ إنْ شاءَ غفرَ لهُ وإن شاءَ عذبه على فعلهِ ثم يخرجهُ بعد ذلك إلى الجنَّةِ التي وعدَهُ بإيْمَانهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ الميعادَ، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعيدِ يكونُ منه تَفَضُّلاً، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعدِ يكونُ خِلْفاً، تعالَى اللهُ عن الخلفِ عُلُوّاً كبيراً.
والدليلُ على أنَّ المؤمنَ لا يصيرُ بقتلهِ المؤمنَ كافراً، ولا خارجاً عن الإيْمان قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ } [البقرة: 178] ولا يكون القصاصُ إلاّ في قتلِ العَمْدِ، فبينما هم مؤمنين وآخَى بينهُم بقوله { { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [البقرة: 178] ولم يُرِدْ به إلاّ الأُخُوَّةَ في الإيْمان، والكافرُ لا يكونُ أخاً للمؤمنِ، ثم قالَ: { { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة: 178] ولا يجعلُ ذلك للكافرِ, ثُم أوجبَ على المعتدِي بعد ذلك عذاباً أليماً لقوله تعالى: { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 178] ولم يُوقِعِ الغضبَ ولا التخليدَ في النار ولا يسمَّي هذا العذابُ ناراً، والعذابُ قد يكون ناراً، وقد يكون غيرَها في الدُّنيا، قال اللهُ تعالى: { { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [التوبة: 14] يعني القَتْلَ وَالأَسْرَ، ولو كان القتلُ يخرجهم من الإيْمان لَمَا خاطبَهم بقولهِ: { { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [البقرة: 104]، وقال تعالى: { { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [الحجرات: 9] الآية واقتِتَالُهم على وجهِ العَمْدِ.
ورويَ:
"أنَّ مُؤْمِناً قَتَلَ مُؤْمِناً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأَمُرِ القَاتِلَ بالإيْمَانِ، ولو كانَ كافراً لأَمَرَهُ أوَّلاً بالإيْمَان، وقال لطالِب الدَّمِ: أتَعْفُو؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: أَتَأْخُذُ الدِّيَّةَ؟ قَالَ: لاَ، فَأَمَرَ بقَتْلِهِ، ثُمَّ أعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً حَتَّى قَبلَ الدِّيَّةَ، ولم يحكُمْ عليه بالْكُفْرِ،" فلو كان ذلكَ كُفْراً لَبَيَّنَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك كان ردَّةً تَحْرُمُ بها زوجتُه عليه، ولم يَجُزْ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الإغْفَالُ عنهُ؛ لأنَّهُ النَّاصِحُ الشَّفِيْقُ المنعوتُ بالتَّأدِيب والتعليمِ.
ودليلٌ آخر أن القاتلَ لا يصيرُ كافراً: هو أنَّ الكُفْرَ والجُحُودَ والإباءَ والشِّرْكَ إضافةٌ، والقاتِلُ لم يَجْحَدْ ولم يَأْبَ قبولَ الْفَرَائِضِ، ولا أضافَ إلى الله تعالى شَرِيكاً، ولو جازَ أن يكون كَافراً ولم يَأْتِ بالكفرِ لَجَازَ أن يكونَ مؤمناً مَن لم يَأْتِ بالإيْمَان.
قال: تَعَلَّقَتِ الخوارجُ والمعتزلةُ بهذه الآيةِ؛ وقالُوا: إنَّ المؤمنَ إذا قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً يبقَى في النَّار مُؤَبَّداً؛ لأن اللهَ تعالى قال (خَالِداً فِيهَا). يقال لَهم: إنَّ هذه الآيةَ نزلت في كَافِرٍ قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً وقد ذكرنا القصَّةَ فيه، وسياقُ الآية يدلُّ عليهِ؛ ورواياتُ المفسِّرين تدلُّ على أنَّها لو سَلَّمْنَا بأنَّها نزلَتْ في مُؤْمِنٍ قَتَلَ مُؤْمِناً فإنَّا نقولُ لَهم: لَوْ قُلْتُمْ إنَّ الخلودَ التأبيدُ فأخبرونا عن قولهِ تعالى:
{ { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [الأنبياء: 34] هُنَا في الدُّنيا، فإن قلتم: إنَّهُ أرادَ التأبيدَ؛ فالدُّنيا تزولُ وتفنَى، ومثله { { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34]، وقَوْلُهُ تَعَالَى: { { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } [الهمزة: 3].
وإن قلتُم: لَمْ يُرِدْ به التأبيدَ؛ وذلك القولُ منكم لا بُدَّ منه؛ فقد ثَبَتَ أن معنَى الخلودِ غيرُ معنى التَّأبيدِ، وكذلكَ العربُ تقول: لأُدْخِلَنَّ فُلاناً في السِّجْنِ، فإنْ قُلْتُمْ: المرادُ به التأبيدُ؛ فالسجنُ ينقطع ويفنَى ويَموتُ المسجون أو يخرجُ منه، فإنْ قالُوا: إنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قالَ { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } دلَّ على كُفْرِهِ؛ لأن اللهَ تعالى لا يَغْضَبُ إلاّ على مَن كان كافراً، قُلْنَا: هذه الآيةُ لا توجِبُ عليه الغضبَ؛ لأنَّ معناهُ: { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ }، وجزاؤهُ أنْ يغضبَ اللهُ عليه ويَلْعَنَهُ، وما ذكرَهُ اللهُ وجعله جزاءَ الشيء فليسَ يكونُ ذلك واجباً؛ لأنه لو كان على الوجوب لكان كقولهِ:
{ { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 29] وهي لغةُ العرب إذا قال القائل: جزاؤُه كذا؛ ثم لَمْ يُجَازهِ لم يكن كاذباً، وإذا قالَ: أجْزِيْهِ ذلكَ ولم يفعل كان كاذباً، فَعُلِمَ أنَّ بينهما فَرْقاً واضحاً.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولهِ تعالى:
"{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } قَالَ: هِيَ جَزَاؤُهُ أنْ جَازَاهُ" . فإن قِيْلَ: قولهُ: { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } من الأفعالِ الماضية، ومتى قُلْتُمْ إنَّ المرادَ به: فجزاؤُه ذلكَ أنْ جَازَاهُ كان مِن الأفعالِ المستقبلة؟ يقالُ لَهم: قد يَرِدُ الخطابُ باللفظ الماضي والمرادُ منه المستقبلُ كقوله تعالى { { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ } [البروج: 8] أي إلاَّ أن آمَنُوا باللهِ، ومثلهُ كثير.
وأما قولُ من زَعَمَ: أنهُ لا توبةَ لِمَنْ قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً، فإنه مُخالفٌ للكتاب والسُّنة، وذلكَ أن اللهَ تعالى يغفرُ الذنوب جميعاً، وأمرَ بالتوبةِ منها، فقالَ عَزَّ وَجَلَّ
{ { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [النور: 31] ولم يَفْصِلْ بين ذنبٍ وذنب، وإذا كان اللهُ تعالى يَقْبَلُ التوبةَ من الكُفْرِ فَقَبُولُهَا من القتلِ أوْلَى، وقالَ تعالى: { { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ... } [الفرقان: 68] إلى قولهِ تعالى: { { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [الفرقان: 70] وقال إخْوَةُ يوسُف: { { ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ } [يوسف: 9] ثم قالُوا: { { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف: 9]. أي تَائِبيْنَ. "وسُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أمِنْ كُلِّ ذنْبٍ يُقْبَلُ التَّوْبَةُ؟ قال: نَعَمْ" .
ثم المقتول إذا اقْتَصَّ منهُ الولِيُّ فذلك جزاؤُه في الدُّنيا، وفيما بين المقتولِ والقاتلِ الأحكامٌ باقية في الآخرةِ؛ لأن الولِيَّ وإنْ قَتَلَهُ فإنَّمَا أخذ حقَّ نفسهِ، وأمَّا المقتولُ فلم يكن له في القِصاصِ منفعةٌ.