التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
-فصلت

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ }؛ أي إنَّ الذين وحَّدُوا اللهََ، { ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ }، على الإيْمَانِ ولَم يشرِكُوا. وكان الحسنُ إذا قرأ هذه الآيةَ قال: (اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الاسْتِقَامَةَ).
وقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه: (يَعْنِي ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى أنَّ اللهَ رَبٌ لَهُمْ)، وقال مجاهدُ: (هُمُ الَّذِيْنَ لَمْ يُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً حَتَّى يَلْقَوْهُ). وقال بعضُهم: يعني الاستقامةَ على أداءِ الفرائضِ ولُزومِ السُّنة. وروي عن عُمر رضي الله عنه: (اسْتَقَامُواْ للهِ بطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُواْ رَوَغَانَ الثَّعَالِب).
وقوله: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ }؛ يعني قَبْضَ أرواحِهم فتقولُ لَهم: { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }؛ أي لا تَخافُوا ما أنتم وَاقِفُونَ عليه، ولا تَحزَنُوا على الدُّنيا وأهلِها، وتقولُ لَهم عند خُروجِهم حين يَرَونَ أهوالَ القيامةِ: { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ }؛ تولَّينَاكم وحَفِظْنَا أعمالَكم، ونتولاَّكم في الآخرةِ ونحفَظُكم.
وعن ثابتٍ أنه قالَ: (بَلَغَنَا أنَّ الْمُؤْمِنَ إذا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَظَرَ إلَى حَافِظِيْنَ قَائِمِيْنَ عَلَى رَأسِهِ يَقُولاَنِ لَهُ: لاَ تَخَفِ الْيَوْمَ وَلاَ تَحْزَنْ وَأَبْشِرْ بالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتَ تُوعَدُ).
وقال عثمانُ رضي الله عنه في معنى قولهِ: (ثُمَّ اسْتَقَامُواْ: ثُمَّ أخْلَصُواْ الْعَمَلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ). وقال مجاهدُ وعكرمة: (مَعْنَاهُ: ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ حَتَّى لَحِقُوا باللهِ).
وقال مقاتلُ: (اسْتَقَامُواْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَرْتَدُّوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ) فِي ثَلاَثِ مَوَاطِن: عِنْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْقَبْرِ، وَفِي وَقْتِ الْبَعْثِ: أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى صَنِيعِكُمْ وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مُخَلِّفِيكُمْ.
وقال مجاهدُ: (أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى مَا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أمْرِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى خِلْفَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ وَلَدٍ وَأهْلٍ، فَإنَّهُ سَيَخْلِفُكُمْ فِي ذلِكَ كُلِّهِ). وقال السديُّ: (لاَ تَخَافُواْ مِنْ ذُنُوبكُمْ فَإنِّي أغْفِرُهَا لَكُمْ).
وقال بعضُهم: معنى هذه الآيةِ: أنَّ الذين قالُوا: { رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } بالوفاءِ على ترك الْخَنَى تَتَنَزَّلُ عليهمُ الملائكةُ بالرِّضَى: أن لا تخافُوا من الغِنَى ولا تحزنُوا على الغنَى وأبْشِرُوا بالبَقاءِ مع الذي كنتم توعدونَ من اللقاءِ. وَقِيْلَ: معناهُ: ألاَّ تَخافُوا فلا خوفٌ على أهلِ الاستقامةِ، ولا تَحزنُوا فإن لكم أنواعَ الكرامةِ وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ السَّلامةِ، لا تخافُوا فعل دِينِ الله إنِ استقمتُم، ولا تحزَنُوا، فبحبلِ اللهِ اعتصَمتُم، وأبْشِرُوا بالجنةِ إن تُبْتُمْ لا تخافوا ما دُمتم ولا تحزنوا فقد نِلتُمْ ما طلبتم، وأبشِرُوا بالجنةِ التي فيها رَغِبْتم، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الإيْمانِ، ولا تحزنوا وأنتم أهلُ الغفرانِ، وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ الرِّضوانِ، لا تخافوا وأنتم أهلُ الشَّهادة، ولا تحزَنوُا فأنتم أهلُ السَّعادة، وأبشروا بالجنةِ التي هي دارُ الزِّيادة، لا تخافوا فأنتم أهلُ النَّوالِ، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الوصالِ، وابشروا بالجنة التي هي دارُ الحَلالِ، لا تخافوا فقد أمنتم الثُّبُورَ، ولا تحزنوا فإن لكم الحورَ، وأبشروا بالجنة التي هي دار السرور، ولا تخافوا فسعيُكم مشكورٌ، ولا تحزنوا فذنبُكم مغفورٌ، وابشروا بالجنة التي هي دار النور، لا تخافوا فطَالَما كنتم خائفينَ، ولا تحزنوا فقد كنتم عَارفين، وأبشِرُوا بالجنة التي عَجَزَ عنها وصفُ الواصفين، لا تخافُوا فأنتم مِن أهل الإيْمانِ، ولا تحزنوا فأنتم من أهلِ الحرمَان، وأبشِروا بالجنة التي هي دارُ الأمانِ. لا تخافوا فسَلِمتُم من أهلِ الجحيم، ولا تحزنوا فقد وَصلتُم إلى الرب الرحيم، وأبشِروا بالجنةِ التي هي دارُ النعيمِ، لا تخافُوا فقد زالت عنكم المخافةُ، ولا تحزنوا فقد سَلِمتُم من كلِّ آفةٍ، وابشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ الضيافةِ، لا تخافوا العَزْلَ من الولايةِ، ولا تحزنوا على ما قدَّمتُم من الجنايةِ، وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دار الهداية، لا تخافوا حلُولَ العذاب، ولا تحزنوا من هَولِ الحساب، وأبشِرُوا بالجنة التي هي دارُ الثواب، لا تخافوا فأنتم سَالِمون من العقاب، ولا تحزنوا فأنتم وَاصِلون إلى الثواب، وأبشِرُوا بالجنة فأنَّها نِعْمَ المآب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ }؛ أي تقولُ لَهم الملائكةُ: نحنُ أولياؤُكم؛ أي نحنُ الْحَفَظَةُ الذي كنا معَكُم في الأُولَى، ونحنُ أحبَّاؤُكم أولياؤكم في الآخرةِ، لا نفارقُكم حتى تدخلُوا الجنةَ، { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ } من الكَراماتِ واللَّذاتِ، يعني ولكم في الآخرةِ ما تشتَهي أنفسُكم، { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }؛ أي أنْزَلََهم اللهُ نُزُلاً، ولا يجوزُ أن يكونَ قولهُ (نُزُلاً) جمع نَازلَةٍ، ويكون المعنَى: ولَكُمْ ما تَدَّعُونَ من غَفُورٍ رَحِيْمٍ نَازلِينَ. ويجوزُ أن يرادَ به القوتُ الذي يقامُ للنازلِ والضَّيفِ، والمعنى: ثَبَتَ لَهم ما يدَّعون { نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } أي كثيرِ المغفرةِ، رَحيمٍ بمن كان على الإيْمانِ والتوبةِ.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } قَالَ: أُمَّتِي وَرَب الْكَعْبَةِ" ، لأنَّ اليهودَ قالوا ربُّنا اللهُ ثُم لَم يَستَقِيمُوا إذ قالُوا: عزير ابن الله! والنصارى قالوا: ربنا الله، ثم لم يستقيموا إذ قالوا: المسيحُ ابنُ اللهِ!.