التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
٢٠
-الأحقاف

التفسير الكبير

قولهُ تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ }؛ أي وأنذِرهُم يومَ يُعرَضُ كفَّارُ مكَّة على النار ويقالُ لَهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا }؛ أي أذهَبتُم أموالَكم، وَقِيْلَ: قوَّتَكم وشبَابَكم في لذاتِكم في الدُّنيا، لا في طلب رضَى اللهِ، بل في وُجوهٍ مُحرَّمَةٍ، وانتقَصتُم بطيِّباتكم في الدُّنيا، { وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }؛ (فَـ) ليس لكم، { فَٱلْيَوْمَ }؛ ها هنا حسناتٍ، وإنما { تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }؛ أي الْهَوَانِ الشديدِ باستكباركم في الأرضِ بالباطلِ، وخُروجِكم من أمرِ الله تعالى إلى المعصيةِ.
وعن ابنِ عبَّاس:
"أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أُدْعُ اللهَ أنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَى فَارسَ وَالرُّومَ وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى) فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أوَفِي شَكٍّ أنتَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب؟! أوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا" .
ورُوي:أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ حَفْصَةٍ وَإنَّهُ لَمُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، وَإنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَاب، وَتَحْتَ رَأسِهِ وسَادَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيْفاً، فَسَلَّمْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أنْتَ نَبيُّ اللهِ وَصَفْوَتُهُ وَخِيْرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ عَلَى سُرُر الذهَب وَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: يَا عُمَرُ؛ إنَّ أُوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ وَهِيَ وَشِيكَةُ الانْقِطَاعِ، وَإنَّا أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا" .
وعن سالِم بن عبدِالله بن عمر كان يقولُ: (وَاللهِ مَا نَعْبَأُ بلَذاتِ الْعَيْشِ بأَنْ نَأْمُرَ بصِغَار الْمِعْزَى فَتُسْمَطَ لَنَا، وَنَأْمُرَ بِلبَاب الْحِنْطَةِ فَيُخْبَزُ لَنَا، وَنَأْمُرَ بالنَّبيذِ فَيُنْبَذُ لَنَا، حَتَّى إذا صَارَ مِثْلَ عَيْنِ يَعْقُوبَ أكَلْنَا هَذا وَشَرِبْنَا هَذا، وَلَكِنَّا أرَدْنَا أنْ نَسْتَبْقِيَ طَيِّبَاتِنَا لأَنَّا سَمِعْنَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَذْكُرُ قَوْماً فَقَالَ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }.
وعن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنه قالَ: (رَأى عُمَرُ رضي الله عنه فِي يَدَيَّ لَحْماً مُعَلَّقاً فَقَالَ: مَا هَذا يَا جَابرُ؟ قَالَ: اشْتَهَيْتُ لَحْماً فَاشْتَرَيْتُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَكُلَّمَا اشْتَهَيْتَ يَا جَابرُ اشْتَرَيْتَ؟ أمَا تَخَافُ هَذِهِ الآيَةَ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا }.
وعن محمَّد بن مَيسَرة قالَ: قال جابرُ بن عبدِالله: (اشْتَهَى أهْلِي لَحْماً فَشَرَيْتُهُ وَمَرَرْتُ بعُمَرَ، فَقَالَ: مَا هَذا يَا جَابرُ؟ قُلْتُ: اشْتَهَى أهْلِي اللَّحْمَ فَاشْتَرَيْتُ هَذا اللَّحْمَ بدِرْهَمٍ، فَقَالَ: أوَكُلَّمَا اشْتَهَى أحَدُكُمْ شَيْئاً جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ، أمَا تَخْشَى أنْ تَكُونَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا }).
وعن عِمَارَةَ بن القَعْقَاعِ عن أبي زَرعَةَ قالَ: (دَخَلَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ يُكَوِّمُ كَعْكاً شَامِيّاً وَيَتَفَوَّقُ لَبَناً حَازراً فَقَالَ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أمَرْتَ أنْ يُصْنَعَ لَكَ طَعَامٌ ألْيَنُ مِنْ هَذا؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ فَرْقَد؛ أتَرَى أحَداً مِنَ الْعَرَب أقْدَرُ عَلَى ذلِكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: مَا أحَدٌ أقْدَرُ عَلَى ذلِكَ مِنْكَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى عَيَّرَ أقْوَاماً فَقَالَ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أنْ أكُونَ أصْلَبَكُمْ طَعَاماً وَأحْسَنَكُمْ ثِيَاباً لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ أسْتَبْقِي دُنْيَايَ لآخِرَتِي).
وعن حفصِ بن أبي العاصِ قالَ: (كُنْتُ أتَغَدَّى مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه فَيَجِيءُ بخُبْزٍ مُتَقَطِّعٍ يَابسٍ غَلِيظٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَقُولُ لَنَا: كُلُواْ، فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ فَقَالَ: مَا لَكُمْ لاَ تَأْكُلُونَ؟ قُلْنَا: لاَ نَأْكُلُهُ وَاللهِ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا نَسْتَطِيعُ لَكِنَّا نَرْجِعُ إلَى طَعَامٍ ألْيَنَ مِنْ طَعَامِكُمْ هَذا.
َفَقَالَ: يَا ابْنَ الْعَاصِ أمَا تَرَى أنِّي قَادِرٌ أنْ آمُرَ بدَقِيقٍ أنْ يُنْخَلَ بخُرْقَةٍ، وَأنْ يُخْبَزَ فِي تَنُّورٍ، وَآمُرَ بعَنَاقٍ سَمِينَةٍ فَلْيُسْمَطَ عَنْهَا شَعْرَهَا ثُمَّ تُخْرَجُ مَصْلِيَّةً كَأَنَّهَا كَذا وَكَذا، أمَا تَرَى أنِّي أقْدِرُ أنْ أعْمَلَ إلَى صَاعٍ أوْ صَاعَيْنِ مِنْ زَبيبٍ فَأَجْعَلُهُ فِي سِقَاءٍ ثُمَّ أنُشُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ فَيُصْبحُ كَأَنَّهُ دَمُ غَزَالٍ؟ قَالَ: قُلْتُ وَاللهِ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَجَادٌّ مَا نَعَتَ الْعَيْشَ؟ قَالَ: أجَلْ وَاللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، لَوْلاَ أنِّي أخَافُ أنْ تَنْقُصَ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَشَارَكْتُكُمْ فِي الْعَيْشِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }.
وكان يقولُ: (لاَ تَنْخِلُواْ الدَّقِيقَ فَإنَّهُ كُلُّهُ طَعَامٌ)، وكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَتَغَدَّى اللَّبَنَ وَالْقَدِيدَ، وعن الزهريِّ رضي الله عنه قالَ: (حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أنَّهُ حَدَّثَهُ:
"أنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَهُ عَلَى حَصِير مَرْمُولاً قَدْ أثَّرَ الشَّرِيطُ فِي جَنْبهِ مُتَوَسِّداً وسَادَةً مِنْ أدْمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَالْتَفَتُّ فِي الْبَيْتِ فَوَاللهِ مَا رَأيْتُ شَيْئاً يَرُدُّ الْبَصَرَ إلاَّ إهَاباً جُلُوداً مَعْطُوفةً قَدْ سَطَعَ ريحُهَا، فَبَكَيْتُ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّكَ خِيرَةُ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذا كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِي الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَاسْتَوَى رَسُولُ اللهِ صلى الله علي وسلم جَالِساً وَقَالَ: أوَفِي شَكٍّ أنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب؟! أُؤلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا" .
ورُوي: أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَدِمَ مِنَ الشَّامِ، فَصُنِعَ لَهُ طَعَامٌ طَيِّباً فَقَالَ: هَذا لَنَا! فَمَا لِنُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُواْ وَهُمْ لاَ يَشْبَعُونَ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ؟ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: لَهُمُ الْجَنَّةُ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاغْرُوْرَقَّتْ عَيْنَا عُمَرَ بالدُّمُوعِ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا فِي الْخِطَامِ وَهُمْ فِي ريَاضِ الْجَنَّةِ، لَقَدْ بَايَنُونَا بَوْناً بَعِيداً).
ورُوي:
"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أهْلِ الصُّفَّةِ، فَرَآهُمْ يُرَقِّعُونَ ثِيَابَهُمْ بالأَدْمِ، مَا يَجِدُونَ لَهَا رقَاعاً، فَقَالَ: هَلْ أنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ قَوْمٍ يَعْدُو أحَدَهُمْ فِي خُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَيَعُدُّ عَلَيْهِ بجَفْنَةٍ وَيُرَاحُ بأُخْرَى" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } يعني يومَ القيامةِ تُجزَونَ العذابَ الذي فيه دُلُّكم وخزيكم، { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ }.