التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
-الفتح

التفسير الكبير

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }؛ "وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلَى مَكَّةَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ، وَتَجَهَّزَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أصْحَابهِ وَمَعَهُمُ الْهَدْي يَسُوقُونَهَا مَعَ أنْفُسِهِمْ، فَبَلَغَ ذلِكَ قُرَيْشاً فَاسْتَعَدُّواْ لِيَصُدُّوهُ وَأصْحَابَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْحُدَيْبيَةِ، فَزِعَ الْمُشْرِكُونَ بنُزُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثُوا إلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيّ لِيَأْتِيَهُمْ بالْخَبَرِ، فَلَمَّا أتَاهُمْ عُرْوَةُ أبْصَرَ قَوْماً عُمَّاراً لَمْ يَأْتُواْ لِلْقِتَالِ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَأخْبَرَهُمْ بذلِكَ وَهُوَ كَارهٌ لِصَدِّهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَعْبَةِ، فَشَتَمُوهُ وَاتَّهَمُوهُ.
ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وُجُوهِهِمَا وَلَبُّوا فَلَمَّا رَجَعَ الرَّجُلاَنِ إلَيْهِمْ قَالاَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ عُرْوَةُ. فَبَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ أبْصَرَهُ: هَذا رَجُلٌ فَاجِرٌ، وَمَا أرَى إلاَّ قَدْ سَهُلَ أمْرُكُمْ. فَلَمَّا أتَاهُمْ سُهَيْلُ تَذاكَرُواْ الْمُهَادَنَةَ وَالْمُوَادَعَةَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهار، أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالْبَيْعَةِ، فَنَادَى مُنَادِيهِ فِي الْعَزْمِ: الآنَ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عليه السلام نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ بالْبَيْعَةِ فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَلَسَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وكَادَتْ تِلْكَ الْبَيْعَةُ فِي صُدُور الْمُشْرِكِينَ.
فَلَمَّا أمْسَوا وَهُمْ عَلَى ذلِكَ، رَمَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ باللَّيلِ فِي أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ بالْحِجَارَةِ فَرَمَواْ أعْدَاءَ اللهِ حَتَّى أدْخَلُوهُمُ الْبُيُوتَ وَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللهِ. وَأقْبَلَ أشْرَافُهُمْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَذا لَمْ يَكُنْ عَنْ رضًى مِنَّا وَلاَ مُمَالأَةً، وَإنَّمَا فَعَلَهُ سُفَهَاؤُنَا، وَعَرَضُوا الصُّلْحَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبلَهُ، وَلَمْ يُعْطِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الصُّلْحَ حَتَّى قَهَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ بالرَّمْيِ بالْحِجَارَةِ.
فَاصْطَلَحَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أنْ يَتَوَادَعُوا سِنِينَ، عَلَى أنْ يَرْجِعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، فَمَنْ لَحِقَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَقْبَلْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَمَنْ لَحِقَ بالْمُشْرِكِينَ مِنْ أصْحَاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنْهُمْ. عَلَى أنَّ الْمُسْلِمِينَ إذا شَاؤُا اعْتَمَرُوا الْعَامَ الْقَابلَ فِي هَذا الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيْهِ، عَلَى أنْ لاَ يَحْمِلُواْ بأَرْضِهِمْ سِلاَحاً.
فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذلِكَ، وَكَتَبُواْ كِتَابَ الْقَضِيَّةَ بَيْنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَهُمْ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذلِكَ الشَّرْطِ وَجْداً شديداً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْ لَحِقَ بنَا مِنْهُمْ لَمْ نَقْبَلْهُ، وَمَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أمَّا مَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَأَبْعَدَهُمُ اللهُ، وَأمَّا مَنْ أرَادَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً، وَإنْ يَعْلَمِ اللهُ مِنْهُ الصِّدْقَ يُنَجِّيهِ مِنْهُمْ.
فَلَمَّا فَرَغُواْ مِنْ كِتَاب الْقَضِيَّةِ، أقْبَلَ جَنْدَلُ بْنُ سُهَيْلٍ وَهُوَ يَرْشِفُ فِي قُيُودِهِ، وَكَانَ أبُوهُ قَدْ أوْثَقَهُ حِينَ خَشِيَ أنْ يَذْهَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ ظَهْرَانِ المُسْلِمِينَ؛ وَقَالَ: إنِّي مِنْكُمْ وَإنِّي أعُوذُ باللهِ أنْ تُرْجِعُونِي إلَى الْكُفَّار.
فَأَرَادَ رجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنْ يَمْنَعُوهُ، وَنَاشَدَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: خَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ؛ فَسَيُنَجِّيهِ اللهُ مِنْهُمْ. فَانْطَلَقَ بهِ أبُوهُ، وَكَانَ مَاءُ الْحُدَيْبيَةِ قَدْ قَلَّ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بدَلْوٍ مِنَ الْمَاءِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَضْمَضَ ثُمَّ مَجَّهُ فِي الدَّلْوِ، ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْبئْرِ، فَامْتَلأَتِ الْبئْرُ مَاءً حَتَّى جَعَلُواْ يَغْرِفُونَ مِنْهُ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفَةِ الْبئْرِ، وََكَانَ هَذا شَأْنُ الْحُدَيْبيَةِ.
ولَبثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهراً وَصَيْفاً فوعَدَهم اللهُ خَيراً أنْ يفتحَها لَهم، فلَمَّا رجعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }، والفتحُ الْمُبينُ: ما كان من استعلاءِ المسلمين عليهم حتى غلَبُوهم بالحجارةِ وأدخَلُوهم بيوتَهم، وتيسير الصلحِ أيضاً من الفتحِ المبين وظهور النبيِّ صلى الله عليه وسلم على خَيبرَ من الفتحِ.
قال: (وَأنْجَى اللهُ أبَا جَنْدَلَ بْنَ سُهَيْلٍ مِنْ أيْدِيهِمْ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلاً كَرِهُواْ أنْ يَقْعُدُواْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلِمُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَقْبَلُهُمْ حَتَّى تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، فَجَعَلُواْ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلَ الْمُشْرِكُونَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُنَاشِدُونَهُ أنْ يَقْبضَهُمْ إلَيْهِ، وَقالُواْ: أنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنِ اخْتَارَكَ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ؛ فَإنَّهُمْ إنْ يَكُونُوا مَعَكَ كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا، فَلَحِقُوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)"
.
وعن قتادة قال: (بُشِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بفْتَحِ مَكَّةَ). ومعنى قولهِ تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } يعني صُلحَ الحديبيةِ، وكان صُلحاً بغيرِ قتالٍ، قال الفرَّاء: (وَالْفَتْحُ قَدْ يَكُونُ صُلْحاً).
ومعنى الفَتْحِ في اللُّغة: فتحُ الْمُغْلَقِ، والصُّلح الذي حصلَ مع المشركين بالحديبيةِ كان مَسْدُوداً متَعَذِّراً حتى فتحَ اللهُ. قال جابرُ: (مََا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إلاَّ يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ). وقال الزهريُّ: (لَمْ يَكُنْ فَتْحٌ أعْظَمُ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبيَةِ، وَذلِكَ أنَّ الْمُشْرِكِينَ اخْتَلَطُواْ بالْمُسْلِمِينَ وَسَمِعُواْ كَلاَمَهُمْ فَتَمَكَّنَ الإسْلاَمُ فِي قُلُوبهِمْ).
ويجوزُ أن يكون معنى الفتحِ: الإكرامُ بالنبوَّة والإسلامِ والأمرُ بدعوةِ الخلقِ إليهما. وَقِيْلَ: معنى { فَتَحْنَا لَكَ } أي قضَينا لكَ بالنصرِ، ومنه المفتاحُ وهو القاضِي، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } [الأعراف: 89] أي اقْضِ بَيننا.
وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المرادَ بالآيةِ فتحُ مكَّة بالغَلبَةِ والقهرِ؛ لأنَّ الصُّلح لا يسمَّى فتحاً على الإطلاقِ، قال الشعبيُّ: (بُويعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ، فَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى خَيْبَرَ فِي مُنْصَرَفِهِ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارسَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ)، والفتحُ في اللغة: هو الفَرَجُ المزيلُ لِلْهَمِّ.