التفاسير

< >
عرض

إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٣٠
فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ
٣١
-المائدة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ }؛ أي قال هابيلُ لقابيلَ: إنْ كُنْتَ تريدُ قتلي فلا تَرْجِعْ عنهُ، فَإنِّي أريدُ أن ترجعَ إلى اللهِ بإثْمِ دَمِي وإثمِ ذنْبكَ الذي مِن أجْلهِ لم يُتَقَبَّلُ قربانُكَ، { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ }؛ في الآخرةِ؛ { وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ }؛ أي وذلكَ عقوبةُ مَن لَمْ يَرْضَ بحكمِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ }؛ أي طَاوَعَتْهُ نفسهُ، وَقِيْلَ: زَيَّنَتْ لهُ قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ. قال السُّدِّيُّ: (لََمَّا قَصَدَ قَابيْلُ قَتْلَ هَابيْلُ أتَاهُ فِي رَأسِ جَبَلٍ وَهُوَ نَائِمٌ وَغَنَمُهُ تَرْعَى، فَأَخَذ صَخْرَةً فَشَدَخَ بهَا رَأسَهُ فَمَاتَ).
وقال الضحَّاك: (كَانَ قَابيْلُ لاَ يَدْرِي كَيْفَ يَقْتُلُهُ حَتَّى جَاءَ إبْلِيْسُ وَبيَدِهِ حَيَّةٌ فَوَضَعَهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَرَضَخَ رَأسَهَا بالْحَجَرِ وَقَابيلُ يَنْظُرُ، فَلَمَا نَظَرَ ذلِكَ جَاءَ إلَى هَابيلَ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بالْحِجَارَةِ عَلَى رَأسِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَكَانَ لِهَابيلَ يَوْمَ قُتِلَ عُشْرُونَ سَنَةً). واختلفوا في موضعِ قتله، قِيْلَ: قُتِلَ على جبلِ ثور. وقِيْلَ: بالبصرةِ.
فلمَّا مات هابيلُ قصَدتْهُ السِّباعُ لتأكلَهُ، فحملَهُ قابيلُُ على ظهرهِ حتى انتنَّ ريحهُ، فعكفَ الطُّيور والسِّباع حوالَيهِ تنتظرُ متى يُرمَي به فتأكلَهُ، { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ }؛ فبعثَ الله غُرابين فاقتَتلا، فقَتل أحدُهما صاحبه، ثم حفرَ له بمنقارهِ ورجله، ثم ألقاهُ في الحفيرةِ ووارَاهُ، وقابيلُ ينتظرُ إليه فـ؛ { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ }.
وعن ابنِ عباس قالَ: (لَمَّا قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ رَجَعَ إلَى أبيهِ قَبْلَ أنْ يَدْفِنَهُ، فَلَمَّا أبْطَأَ هَابيلُ قالَ آدَمُ عليه السلام: يَا قَابيلُ أينَ أخُوكَ؟ قالَ: مَا رَأيْتُهُ؛ وَكَأَنَّنِي بهِ أرْسَلَ غَنَمَهُ فِي زَرْعِي فَأَفْسَدَهُ، فَلَعَلَّهُ خَافَ أنْ يَجِيءَ مِنْ أجْلِ ذلِكَ، قَالَ: وَحَسَّتْ نَفْسُ آدَمَ، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مَحْزُوناً، فَلَمَّا أصْبَحَ قَابيلُ غَدَا إلَى ذلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإذا هُوَ بغُرَابٍ يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ عَلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ لِيُواريَهُ).
وَقِيْلَ: بعثَ اللهُ الغرابَ إكراماً لهابيل، وكان الغرابُ يحثِي الترابَ على هابيل ليُرِيَ قابيل كيف يُواريه؛ أي كيف يغطِّي عورتَهُ. وفي الخبرِ: أنَّهُ لَمَّا قتله سلبَهُ ثيابه، وتركه عُرياناً. وَقِيلَ: أرادَ بالسَّوْءَةِ جسَدَ المقتولِ، سماه سَوْءَةً لأنه لَمَّا بقي على وجهِ الأرض تغيَّرَ وَنَتَنَ، والسوءَةُ في اللغة: عبارةٌ عن كل شيء مستنكرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ }؛ الخاسرين، أي صارَ من المغبونِين بالوزر والعقوبة. قال الكلبيُّ: (كَانَ قَابيلُ أوَّلَ مَنْ عَصَى اللهَ فِي الأَرْضِ مِنْ ولْدِ آدَمَ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ يُسَاقُ إلَى النَّارِ).
وقال مقاتلُ: (كَانَ قَبْلَ ذلِكَ تَسْتَأْنِسُ الطُّيُورُ وَالسِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ بهِ، فَلَمَّا قَتَلَ قَابيلَ نَفَرُواْ، فَلَحِقَتِ الطُّيُورُ بالْهَواءِ؛ وَالْوُحُوشُ بالْبَرِّيَّةِ؛ وَالسِّبَاعُ فالفيَافِي وشَاكَ الشَّجَرُ، وَتَغَيَّرَتِ الأَطْعِمَةُ وَحَمِضَتِ الْفَوَاكِهُ وَاغْبَرَّتِ الأَرْضُ). وقال عبدُالله المخزوميُّ: (لَمَّا قُتِلَ هَابيلُ رَجَفَتِ الأَرْضُ بمَا عَلَيْهَا سَبْعَةَ أيَّامٍ). وقال سالِمُ بن أبي الجعد: (مَكَثَ آدَمُ عليه السلام حَزِيناً عَلَى قَتْلِ وَلَدِهِ هَابيلَ مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَضْحَكُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي أرسلَ اللهُ غراباً يثيرُ الترابَ على غرابٍ آخر ميْتٍ بمنقارهِ وبرجله، فلما أبصرَ قابيل الغرابَ يبحثُ في الأرض دعَا بالويلِ على نفسه، فقال: (يَا وَيْلَتَا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذا الْغُرَاب) والوَيْلُ: كلمةٌ تستعمَل عند الوقوعِ في الشدَّة والهلَكةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } يحتملُ أنه نَدِمَ نَدَمَ توبةٍ عن جميع ما قالَ وفعل، ويحتمل أنه نَدِمَ على تركِ مُواراةِ سَوْءَةِ أخيه، فإن كانت الأُولى فاللهُ توَّابٌ رحيم، وإنْ كانت الثانيةُ فإثْمُ القتلِ في عُنقه. قال ابنُ عبَّاس: (لَوْ كَانَتْ نَدَامَتُهُ عَلَى قَتْلِهِ لَكَانَتْ تَوْبَةً مِنْهُ). وَقِيْلَ: إنه إنما نَدِمَ لأنه لم ينتفِعْ بقتلهِ ولم يحصُلْ له مرادهُ، فكان ندمهُ لأجلِ ذلك لا بقُبحِ فعلهِ، ولو كان ندمهُ تقرُّباً إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
قال ابنُ عبَّاس: (فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِقَابيلَ: كُنْ خَائِفاً لاَ تَرَى شَيْئاً إلاَّ خِفْتَ مِنْهُ أنْ يَقْتُلَكَ، قَالَ: وَكَانَ كُلُّ مَنْ رَأى قَابيلَ رَمَاهُ بالْحِجَارَةِ، فَأَبْصَرَهُ بَعْضُ وَلَدِ وَلَدِهِ فَرَمَاهُ بالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلَهُ) ويقالُ: كان على جبلٍ فنطحَهُ ثورٌ فوقعَ إلى سفحِ الجبل فتفرَّقت أوصالهُ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:
"لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ"
]. قال مقاتلُ: (وَتَزَوَّجَ شِيثٌ بإقْلِيمَا). وقال الضحَّاك: (لَمَّا قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَلَمْ يَدْر كَيْفَ يَصْنَعُ بهِ، فَمَكَثَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ لاَ يَدْرِي مَاذا يَصْنَعُ بهِ، فَبَعَثَ اللهُ غُرَابَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ، فَقَتَلَ أحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ أخَذ يَحْفُرُ فِي الأرْضِ، وَأخَذ برِجْلِ الْغُرَاب الْقَتِيلِ وَألْقَاهُ فِي الْحَفِيرَةِ) فذلك قوْلُهُ تَعَالَى: { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ }.