التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤
-المائدة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ } [المائدة: 3] جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ لَنَا كِلاَباً نَتَصَيَّدُ بهَا فَتَأْخُذُ الْبَقَرَ وَالظِّبَاءَ وَالْحُمُرَ، فَمِنْهَا مَا نُدْركُ ذكَاتَهُ، وَمِنْهَا مَا لاَ نُدْركُ، وَقَدْ حَرَّمَ اللهَ الْمَيْتَةَ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها: يَسألونَكَ يا مُحَمَّدُ: أيَّ شيءٍ أحِلَّ لَهم من الصَّيدِ وغيرِه؟ قُلْ أحَلَّ لَكُمُ الْمُبَاحَاتِ. يقال: هذا يَطِيْبُ لفلانٍ؛ أي يَحِلُّ، قال الله تعالى:
{ { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 3] أي ما حَلَّ لكم. وكلُّ شَيْءٍ لَمْ يَأْتِ تَحْرِيْمُهُ فِي كِتَابٍ أوْ سُنَّةٍ فَهُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وقال بعضُهم: أراد بالطِّيباتِ المستلذاتِ والمشتَهَياتِ، وهو عامٌّ أريدَ به غيرُ ما تَضْمَّنَتْهُ الآيةُ المتقدِّمةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي وأحلَّ صَيْدَ ما عَلَّمْتُمْ، فحذفَ ذِكْرَ الصَّيدِ لأنَّ في الكلامِ دليلاً عليه، والْجَوَارحُ: هِيَ الْكَوَاسِبُ مِنَ الْفَهْدِ؛ وَالصَّقْرِ؛ وَالْبَاز؛ وَالْعُقَاب؛ وَالنَّسْرِ؛ وَالْبَاشِقِ؛ وَالشَّاهِيْنِ وسائرِ ما يُصْطَادُ به الصيدُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{ { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } [الأنعام: 60] أي كَسَبْتُمْ، وَقِيْلَ: معنى الْجَوَارحِ: الْجَارحَاتُ بنَاتٍ أو مَخْلَبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { مُكَلِّبِينَ } حالٌ للمعلِّمينَ؛ أي في حالِ إغْرَائِهِمْ الكلبَ على الصَّيدِ، والتَّكْلِيْبُ: إغْرَاءُ السَّبُعِ عَلَى الصَّيْدِ وإرْسَالُهُ.
ومن قرأ (مُكَلَّبيْنَ) بفتحِ اللاَّمِ فهو حالُ من الكوَاسِب المعلِّمين. وقرأ ابنُ مسعودٍ والحسنُ: (مُكَلِبيْنَ) بإسكانِ الكافِ وتخفيف اللام، فعلى هذا المعنى يجوزُ أن يكونَ مِن قولِهم: أكْلَبَ الرَّجُلُ إذا كَثُرَتْ كِلابُهُ، وأمْشَى إذا كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ، ولذلكَ ذَكَرَ الكلاب؛ لأنَّها أعَمُّ وأكثَرُ، والمرادُ به جميعُ الجوارحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ }؛ أي تُؤَدِّبُوهُنَّ أن يُمْسِكْنَ الصَّيدَ عليكم كما أدَّبَكُمُ اللهُ تعالَى: { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ }؛ أي على الإرْسَالِ، كما رُويَ عنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ:
"إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَسَمَّيْتَ اللهَ تَعَالَى فَكُلْ، وَإنْ أكَلَ مِنْهُ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإنَّهُ إنَّمَا أمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" . وفي بعضِ الرِّواياتِ: "وَإنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلاَ تَأَكُلْ، فَإنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْب غَيْرِكَ"
]. وذهبَ بعضُ أهلِ العلم إلى أنَّ معنى الإمساكِ في هذه الآيةِ أنْ يَحْفَظَ الكلبُ الصَّيْدَ حتَّى يجيءَ صاحبهُ، فإنْ تركَهُ حتى غابَ عن صاحبهِ ثم وجدَهُ صاحبُهُ بعدَ ذلكَ ميتاً لَمْ يَحِلَّ أكلهُ. قال صلى الله عليه وسلم: "كُلْ مَا أصْمَيْتَ، وَدَعْ مَا أنْمَيْتَ" ، قِيْلَ: الإصْمَاءُ: مَا رَأيْتَ؛ والإنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْكَ.
واختلفَ أهلُ العلمِ في حَدِّ التعليمِ؛ قال أبُو حَنِِيْفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: (لَيْسَ فِيْهِ حَدٌّ مُؤَقَّتٌ، وَإنَّمَا يُرْجَعُ فِيْهِ إلَى أهْلِ الصَّنْعَةِ، فَإنْ حَكَمُوا بتَعْلِيْمِهِ حَلَّ صَيْدُهُ بَعْدَ ذلِكَ وَإلاَّ فَلاَ؛ لأنَّ الاصْطِيَادَ لِلْكِلاَبِ بمَنْزِلَةِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ لِلنَّاسِ، وَلَيْسَ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ الإنْسَانِ عَالِماً بصَنْعَتِهِ مُتَقَدِّماً عَلَى حِرْفَتِهِ حَدُّ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِي كُلِّ إلَى أهْلِهَا).
وقال أبو يُوسُف ومحمَّدُ وكثيرٌ من الفقهاءِ: (إذا دُعِيَ الْكَلْبُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ عَلَى الْوَلاَءِ فَأَجَابَ؛ وَأَُرْسِلَ فَاسْتَرْسَلَ، وَأخَذ الصَّيْدَ وَلَمْ يَأَكُلْ، حَكَمْنَا بكَوْنِهِ مُعَلَّماً؛ لأنَّ التَّعْلِيْمَ لاَ يَحْصُلُ بالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَحْصُلُ بالْمَرَّاتِ الْكَثِيْرَةِ، فَجُعِلَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيْلِ وَالْكَثِيْرِ بالثَّلاَثِ الَّتِي هِيَ أقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيْحِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }؛ قد تقدَّم تفسيرهُ، وروَى أبو رافعٍ قالَ:
"جَاءَ جَبْرِيْلُ عليه السلام إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذنَ؛ فَأُذِنَ لَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ردَاءَهُ وَخَرَجَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: قَدْ أذِنَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: أجَلْ؛ وَلَكِنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتاً فِيْهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. فَنَظَرُوا فَإذا فِي بَعْضِ بُيُوتِهِمْ جَرْوٌ" .
وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتاً فِيْهِ صُورَةٌ وَلاَ كَلْبٌ وَلاَ جُنُبٌ" . قَالَ أبُو رَافِعٍ: (فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ لاَ أدَعَ كَلْباً فِي الْمَدِيْنَةِ إلاَّ قَتَلْتُهُ، فَقََتَلْتُ حَتَّى بَلَغْتُ الْعَوَالِي، فَانْتَهَيْتُ إلَى امْرَأةٍ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِيْنَةِ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَحْرُسُ غَنَمَهَا فَرَحِمْتُهُ؛ ثُمَّ أتَيْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بأَمْرِهِ فَأَمَرَنِي بقَتْلِهِ، فَرَجَعْتُ إلَى الْكَلْب فَقَتَلْتُهُ). وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَافِعاً صَوْتَهُ يقولُ: "اقْتُلُوا الْكَلْبَ" .
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْب، وَلاَ حُلْوَانُ الْكَاهِنُ، وَلاَ مَهْرُ الْبَغْيِّ وَنَهَى عَنِ اقْتِنَائِهَا وَإمْسَاكِهَا، وَأمَرَ بغَسْلِ الإنَاءِ مِنْ وُلُوغِهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بالتُّرَاب. قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقَتْلِ الْكََلْب، فَجَاءَ أُنَاسٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي أمَرْتَ بقَتْلِهَا؟ فَسَكَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ" فَلَمَّا نَزَلَتْ أذِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي اقْتِنَاءِ الْكِلاَب الَّتِي يُنْتَفَعُ بهاَ، وَنَهَى عَنِ اقْتِنَاءِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بهَا، وَأمَرَ بقَتْلِ الكْلَب الْعَقُور، وَمَا يَضُرُّ وَيُؤْذِي، وَرَفَعَ الْقَتْلَ عَمَّا سِوَاهَا مِمَّا لاَ ضَرَرَ فِيْهِ.
وعن عبدِالله بن المغفل قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَوْلاَ أنَّ الْكِلاَبَ أمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لأَمَرْتُ بقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيْمَ، وَأيَّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْباً لَيْسَ بكَلْب صَيْدٍ أوْ حَرْثٍ أوْ مَاشِيَةٍ، فَإنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قِيْرَاطٌ" . وعن أبي هريرةَ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَنَى كَلْباً لَيْسَ بكَلْب صَيْدٍ وَلاَ مَاشِيَةٍ وَلاَ أرْضٍ، فَإنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيْرَاطَانِ" . والحكمةُ في ذلكَ: أنه يَنْبَحُ على الضَّيْفِ ويُرَوِّعُ السائلَ.