التفاسير

< >
عرض

لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٨٩
-المائدة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ }؛ قال ابن عبَّاس: (هُوَ أنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ باللهِ فِي الشَّيْءِ يَرَى أنَّهُ كَذلِكَ). وقالت عائشةُ: (هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لاَ وَاللهِ، وَبَلَى واللهِ، يَصِلُ بهِ كَلاَمَهُ وَلاَ يَعْقِدُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ). واللَّغْوُ في اللغة: هو الكلامُ الساقطُ الذي لا يعتدُّ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ }؛ أي بما وكَّدتم الأيمان. قرأ أهلُ الحجاز وحفص وأبو عمرو: (عَقَّدْتُمْ) بالتشديدِ، وقرأ أهلُ الكوفة إلاَّ حفصاً: بالتخفيف (عَقَدْتُمْ). ومعناه: أن يحِلفَ الرجلُ على أمرٍ في المستقبل ليفعلَهُ ثم لا يفعلهُ، أو يحلفَ أن لا يفعلَهُ ثم يفعلهُ. فمَن قرأ (عَقَّدْتُمْ) بالتشديدِ فمعناهُ المبالغة والتأكيدُ. وفائدتهُ أن يعتقدَها في قلبهِ، ولو عقدَها في أحدِهما دون الآخرِ لم يكن مُعتقداً، وهو كالتعظيمِ.
وكان أبو الحسنِ الكرخيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يقول: (قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ لاَ تَحْتَمِلُ إلاَّ الْعَقْدَ بالْقَوْلِ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَحْتَمِلُ عَقْدَ الْقَلْْب، وَهُوَ الْعَزِيْمَةُ وَالْقَصْدُ إلَى الْقَوْلِ). ويحتملُ عقد اليمينِ قَولاً؛ يقال: عقدتُ على أمرِ كذا؛ إذا عزمتُ عليه.
وَقِيْلَ: الأصحُّ أن المرادَ بالعقدِ القولُ؛ لأنه لا خلافَ بين الأئمَّة أن القصدَ من اليمينِ لا يتعلقُ به وجوبُ الكفَّارة، وإن وجوبَها متعلقٌ باللفظِ دون القصدِ. ويحتملُ أن يكون معنى التشديدِ: أنه متى أعادَ اليمينَ على وجه التكرار، وهو يريدُ التكرارَ لا يلزمهُ إلا كفارةٌ واحدة.
وقرأ أهلُ الشام: (عَاقَدْتُمْ) بألف وهو من المعاقَدة، وهو أن يحلفَ الرجلُ لصاحبهِ على مسأَلته، أو يحلفَ كلُّ واحد منهما لصاحبهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَكَفَّارَتُهُ }؛ أي كفَّارة ما عقَّدتُم من الأيمانِ عند الحنثِ، { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ }؛ أي مِنْ أعدل مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ غداءً وعشاء ولا وكَسَ ولا شَطَطَ.
وَقِيْلَ: معناهُ: من أوسَطهِ في الشَّبع، ولا تفرطُ في الأكلِ، ولا يكون دون المغنى عن الجوعِ، فإن أرادَ أن يُطعِمَهم الطعامَ أعطَى لكلِّ مسكين نصفَ صاعٍ من حنطة عند أصحابنا، هكذا رُوي عن عمرَ وعليٍّ وعائشة. وقال الشافعيُّ ومالك: (مُدّاً بمُدِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم).
وَالْمُدُّ: رَطْلٌ وَثُلُث، وهكذا رُوي عن زيدِ بن ثابت وابنِ عبَّاس وابن عمرِو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أجمعين. وأما غدَاؤهم وعشاؤهم فلا عبرةَ بمقدار الطعام، إلا أن يكون فيهم صبيٌّ صغير لا يستوفِي الأشياءَ يسيراً فلا يعتدُّ به حينئذ، وإنما قال: يُغَدِّيهِمْ ويُعَشِّيهم؛ لأن ذلك أوسطُ طعامِ الأهل؛ لأن أكثرَ الأكلِ ثلاثُ مرات، وأقلُّه وجبة، والغالبُ الأوسط؛ والأوسطُ الغالب مرَّتان. وقال سعيدُ بن جبير: (يُعْطِي لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ؛ مُدٌّ لِطَعَامِهِ وَمُدٌّ لإدَامِهِ).
وسُئل شريح عن الكفَّارة؛ فقال: (الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ). فقال له السائلُ: رأيتَ إن أطعمتُ الخبزَ واللحم، فقال: (ذَلِكَ أرْفَعُ طَعَامِ أهْلِكَ وَطَعَامِ النَّاسِ). وعن ابنِ مسعود وابن عمرو: (أنَّ أعْلاَ مَا بطَعَامِ الأَهْلِ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ، والأَدْوَنُ الْخُبْزِ الْبَحْتُ بغَيْرِ إدَامٍ، وَالأوْسَطُ الْخُبْزُ مَعَ السَّمْنِ وَنَحْوُهُ).
ظاهرُ الآية يقتضي أنه إذا أعطَى مسكيناً واحداً طعامَ العشرةِ لا يقعُ إلا عن الواحدِ، إلا أنَّ أصحابَنا إنَّما اختَاروا دفعَ ذلك إلى الواحدِ في العشرة أيَّام على أعشارٍ، والمعنى: لأنه جُوِّزَ على الحانث سدُّ عشرِ خِلات، ولا فرقَ بين سدِّ خلة الواحدِ في عشرة أيام، وسدِّ خلَّة العشرةِ في يوم واحدٍ.
قَوْْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ كِسْوَتُهُمْ }؛ قرأ السُّلَّمي (أوْ كُسْوَتُهُمْ) بضمِّ الكاف وهما لُغتان. ومعنى الآية: أو كسوةُ عشرةِ مساكين، وأدنَى ما يجوزُ في الكسوة ثوبٌ واحد أو رداء أو قميص أو إزارٌ وقبَاءٌ أو كِسَاءٌ. وأما القلُنسوة والْخُمُرُ والعمامَةُ والسراويلُ، فلا تجوز عن الكسوةِ في ظاهرِ الرواية.
وروي عن مُحمد أن السراويلَ تُجزئ لجواز الصلاة فيها للرجُل. وعند الشافعيِّ تجوزُ السراويل والعِمامة. وعند سعيد بن المسيَّب والضحاك: (يَجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَانِ).
قَوْْلُهُ تَعَالَى: { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }؛ معناهُ: أو إعتاقُ مملوكٍ يستوي فيه الذكر والأُنثى؛ والصغيرُ والكبير. وظاهر اللفظِ يقتضي رقبةً مُسَلَّمَةً من العاهاتِ؛ لأن اسمَ الشخص بكمالهِ، إلا أنَّ الفقهاءَ اتَّفقوا أن النقصَ اليسيرَ لا يمنعُ جوازَها.
ولا يجوزُ عِتْقُ أمِّ الولد، والمعتَقُ بعضهُ بالإجماعِ، وأما المدبَّرُ فالخلافُ فيه كالخلافِ في بيعه، وأما المكاتَب فيجوزُ عِتقهُ عن الكفارةِ إذا لم يؤَدِّ شيئاً من الكتابةِ عندنا. وقال الشافعيُّ: (لاَ يَجُوزُ).
ويجوزُ عندَنا عتقُ الرقبة الكافرةِ والمؤمنة في كفَّارة اليمينِ والظِّهار؛ لأن الرقبةَ مُبهَمة فيهما، إلا العبدَ المرتدَّ؛ فإنه لا يجوزُ؛ لأنه غير محقونِ الدم. وقال الشافعيُّ: (لاَ يَجُوزُ قِيَاساً عَلَى كَفَّارَةِ القَتْلِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ }؛ معناهُ: إذا لم يكن له فضلٌ عن كَسبهِ وثياب بدَنهِ وما يقتات به في منزلهِ مقدارَ ما يطعمُ عشرةَ مساكين أو يكسُوهم ويعتقُ رقبةً، فعليه صيامُ ثلاثة أيَّام. وظاهرُ الآية: يقتضي أنه يجزئُ في الصيام التفريقُ، وهو قول مالكِ والشافعيُّ. وفي قراءةِ ابن مسعود وأبَي بن كعب: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ). وعن ابن عبَّاس ومجاهد وإبراهيمَ وقتادة وطاووس؛ أنَّهم قالوا: (هِيَ مُتَتَبعَاتٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ }؛ أي ذلك الذي ذكرتُ لكم، وأمَرتُكم به كَفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذا حَلَفْتُمْ. وقولهُ تعالى: { وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ }؛ أي احفَظُوها من الحنثِ، وهذا إذا لم يقعِ اليمينُ على منعِ واجب أو فعلِ معصية، أما إذا كان اليمينُ على منعِ واجب أو فعلِ معصية، فعلى الحالف أن يحنثَ نفسه ويكفِّرَ عن يمينهِ.
ويقال: معناه: (احْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) رَاعُوا ألفاظَ إيْمانِكم ليعلمَ الرجلُ ما حلفَ عليه فيكفِّرهُ إذا حنثَ. ويقال: معناهُ: لا تَحلِفُوا، كما قال الشاعرُ:

قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ إذا بَدَرَتْ مِنْهُ الأَلْيَةُ بَرَّتِ

والتأويلُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ الآية؛ لأن الإنسانَ لا يؤمَرُ بحفظ شيءٍ معدوم، لا يقالُ لِمَن لا مالَ له: احفَظْ مالَكَ.
وقولهُ تعالى: { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }؛ أي هكذا يبيِّنُ الله لكم أمرَهُ ونَهيَهُ كما بيَّنَ كفارةَ اليمين؛ لكي تشكُروا إنعامَهُ وبيانه.