التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١
-المجادلة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ }؛ قال مقاتلُ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكْرِمُ أهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ وَمِنْهُمْ ثَابتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسِ وَقَدْ سَبَقُواْ فِي الْمَجْلِسِ، فَقَامُواْ حِيَالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ سَلَّمُواْ عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذلِكَ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ.
فَقَامُواْ عَلَى أرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَا لَحِقَهُمْ مِنْ ضَرَر الْقِيَامِ، فَشُقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ: قُمْ يَا فُلاَنُ وَأنْتَ يَا فُلاَنُ فَأَقَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ بقَدْر النَّفَرِ الَّذِينَ قَامُواْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ.
فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعَرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَرَاهِيَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: ألَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أنَّ صَاحِبَكُمْ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ؟ فَوَاللهِ مَا عَدَلَ عَلَى هَؤُلاَءِ إنَّ قَوْماً أخَذُواْ مَجَالِسَهُمْ، وَأحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْ نَبيِّهِمْ فَأَقَامَهُمْ وَأجْلَسَ غَيْرَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ"
.
قولهُ تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ } أي أوسِعُوا في المجلسِ { فَٱفْسَحُواْ } أي أوْسِعُوا على مَن حضرَ مجلسَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأحبَّ سماعَ كلامهِ؛ لتَشتَرِكُوا في سماعِ الدِّين منه، وهذا أمرٌ لَهم بالتأديب كي لا يؤذِي أحدٌ جليسَهُ بفعلِ الزِّحامِ، ولئلاَّ يكون غرضُهم إلاَّ التواضعُ للهِ تعالى وللدِّين، وذلك أنَّهم كانوا قد جلَسُوا مُتَضايقين حولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأُمِرُوا أن يتنَحَّوا عنه في الجلوسِ ويتوَسَّعوا المجلسَ غيرَهم معهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ } أي يُوسِّع مجالِسَكم في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ }؛ معناهُ: وإذا قِيْلَ: انْهَضُوا إلى صلاةٍ أو أمرٍ بمعروف ونُودِيَ للصَّلاة فانْهَضوا. وَقِيْلَ: معناهُ: وإذا قيلَ لكم اخرجُوا إلى الجهادِ فاخرُجوا يرفعِ الله درجاتِكم في الجنَّة، ويرفعِ اللهُ الذين أُوتوا العلمَ درجاتٍ فوقَ درجاتِ الذين أُكرِمُوا بالإيمانِ بغير علمٍ.
وفي الحديثِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الَّذِي لَيْسَ بعَالِمٍ سَبْعُونَ دَرَجَةً، اللهُ أعْلَمُ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ" . وقال صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابدِ كَفَضْلِي عَلَى سَائِرِ أُمَّتِي" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بالْعَالِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْعَابدِ، فَيُقَالُ لِلْعَابدِ: أُدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَيُحْبَسُ الْفَقِيهُ فَيَقُولُ: فَبمَ حَبَسْتُمُونِي؟! فَيُقَالُ لَهُ: اشْفَعْ" .
قرأ أهلُ المدينة والشام وعاصم (انْشُزُوا فَانْشُزُوا) بضمِّ الشين، وقرأ الآخرون بكسرِها، وهما لُغتان، ومعناهما: إذا قيلَ لكم: تحرَّكُوا وقُومُوا وارتفعوا وتوسَّعوا لإخوانِكم فافعَلُوا. وَقِيْلَ: معناهُ: إذا قيل لكم انْهَضُوا إلى الصَّلاة والذِّكر وعملِ الخير، فانشُزوا ولا تقَصِّروا.
وقولهُ تعالى: { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ }؛ يعني يَرفَعُهم بطاعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامِهم من مجالسِهم وتوسِعهم لإخوانِهم، { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }؛ منهم بفضلِ عَمَلِهم، قال صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ جَاءَتْ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَنْبيَاءِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ" .