التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
-المجادلة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا }؛ اختلف المفسِّرون في معنى العودِ المذكور في الآية، فذهبَ أصحابُ الظَّواهرِ إلى أنَّ المرادَ به إعادةُ كلمةِ الظِّهار، وهذا قولٌ مخالف لقولِ أهلِ العلم، وقد أوجبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكفارةَ على أوسٍ حين ظاهرَ من امرأتهِ، ولم يسأَلْ أكرَّرَ الظهارَ أم لا؟.
وذهبَ مالكُ إلى أن العَوْدَ هو العزمُ على الوطئِ، قال: (وَإذا عَزَمَ عَلَى وَطْئِهَا بَعْدَ الظِّهَار فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، سَوَاءٌ أمْسَكَهَا أوْ أبَانَهَا أوْ عَاشَتْ أوْ مَاتَتْ). وقال الشافعيُّ: (الْعَوْدُ هَا هُنَا هُوَ الإمْسَاكُ عَلَى النِّكَاحِ، إذا أمْسَكَهَا عُقَيْبَ الظِّهَار وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ تِلْكَ الْكَفَّارَةُ وَإنْ أبَانَهَا بَعْدَ ذلِكَ.
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أنَّ معنى العَوْدِ هو أن يعودَ المقولُ فيه فيستبيحُ ما حرَّمَهُ بالظهار، وقد يُذكَرُ المصدرُ ويراد به المقولُ كما قال صلى الله عليه وسلم:
"الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْب يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" وإنَّما هو عائدٌ في الموهوب. ويقالُ: اللهُمَّ أنتَ رجَاؤُنا؛ أي مَرجُوُّنا، وقال تعالى: { حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر: 99] أي الْمُوقَنُ بهِ، والعَوْدُ في الشَّيءِ هو فعلُ ما يناقضُ ذلك الشيءَ، وحروفُ الصِّفات يقومُ بعضها مقامَ بعضٍ كما في قولهِ تعالى: { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71]، فيكون المعنى: ثُمَّ يعُودون فيما قَالُوا.
والإمساكُ على النِّكاح عُقيبَ الظِّهار لا يكون عَوْداً على وجهِ التَّراخي ولا يناقضُ لفظَ الظِّهار، فإنَّ الظهارَ لا يوجِبُ تحريمَ العقدِ حتى يكون إمساكُها على النكاحِ عَوْداً، ثم على مذهب أبي حنيفةَ: إذا قصدَ أن يستبيحَها ثم أبانَها سقطَتِ الكفارةُ عنه.
وفي قولهِ تعالى: { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } دليلٌ على أنَّ هذه الكفارةَ إنما شُرِعَتْ لدفعِ الْحُرمَةِ في المستقبلِ، وفيه دليلُ تحريمِ التَّقبيلِ واللَّمسِ قبلَ التكفيرِ؛ لأنَّ قولَهُ تعالى: { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } يتناولُ جميعَ ضُروب الْمَسِيسِ.
وفي قولهِ تعالى: { مِن نِّسَآئِهِمْ } دليلٌ على أنَّ الظِّهارَ لا يكون في الإماءِ إلاّ إذا كُنَّ زوجاتٍ؛ لأنَّ إطلاقَ لفظِ النساء ينصرفُ إلى الحرائرِ كما في قولهِ تعالى:
{ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } [النور: 31]. وفي قولهِ تعالى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } دليلٌ على جواز إعتاقِ الرَّقبة الكافِرة في الظِّهار؛ لأن ذِكرَ الرَّقبة مطلقٌ في الآيةِ، بخلافِ كفَّارة القتلِ.
والأصلُ في الظِّهار أنه إذا ذكرَ في المرأةِ ما يجمَعُها مثلُ الجسدِ والبدن والرأسِ والرَّقبة ونحوها، والظهرِ والبطن والفرجِ والفخذ وشبَّهَها بمحارمهِ كان مُظَاهِراً. وإنْ قال: أنتِ علَيَّ كَيَدِ أُمِّي أو رجلِها، أو قال: يدُكِ علَيَّ أو شَعرُكِ عليَّ كظهرِ أُمي كان بَاطلاً.
وقال مالكُ: (يَصِحُّ الظِّهَارُ بالتَّشْبيهِ بالأَجْنَبيَّةِ). وقال الشعبيُّ: (لاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إلاَّ بالأُمِّ)، وقال الشافعيُّ: (إذا قَالَ: يَدُكِ، أوْ قَالَ: أنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّي، فَهُوَ ظِهَارٌ). { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.