التفاسير

< >
عرض

كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
-الحشر

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ }؛ أي مثَلُ الكافرِين في غُرورهم لبني النضير وخِلاَّنِهم، كمثَلِ الشَّيطانِ في غُرورهِ لابنِ آدمَ إذ دعاهُ إلى الكُفرِ بما زَيَّنَهُ له من المعاصِي، فلمَّا كَفَرَ الآدميُّ تَبَرَّأ الشيطانُ منه ومن دينهِ في الآخرة.
ويقال: إنَّ المرادَ بهذه الآيةِ إنسانٌ بعَينهِ يقالُ له بَرصِيصَا، عَبَدَ اللهَ تعالى في صَومعَةٍ له سَبعين سنةً، وكان من بنِي إسرائيلَ، فعالَجهُ إبليس فلم يقدِرْ عليه، فجمعَ ذاتَ يومٍ مَرَدَةَ الشياطين وقال لَهم: ألاَ أحدٌ منكم يكفِيني أمرَ برصيصا؟ فقال له الأبيضُ: أنا أكفِيكَهُ، وكان من شدَّة تَمرُّد هذا الأبيضِ أنه اعترضَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليُوَسوِسَ إليه، فدفعَهُ جبريلُ دفعةً هيِّنة فوقعَ في أقصى أرضِ الهند.
فقالَ الأبيضَ لإبليسَ: أنا أُزَيِّنُ له، فتزيَّنَ بزينةِ الرُّهبان ومضَى حتى أتَى صومعةَ برصيصا، فأقبلَ على العبادةِ في أصلِ الصَّومعة فانفتلَ برصيصا فاذا هو يراهُ قائم يصلِّي في هيئةِ حسَنةٍ من هيئة الرُّهبان، فأقبلَ إليه وقالَ: يا هذا ما حاجَتُكَ؟ فقال: أحبُّ أن أكون معكَ فأتعلَّمَ منكَ وأقتبسَ عِلمَكَ، فتدعُو لي وأدعُو لكَ، فقال برصيصا: إنِّي لفِي شُغلٍ عنكَ، فإن كُنتَ مُؤمِناً فسيجعلُ الله لكَ نَصيباً مما أدعوهُ للمؤمنين والمؤمناتِ.
ثم أقبلَ على صلاتهِ وتركَ الأبيضَ، وقامَ الأبيضُ يصَلِّي فلم يلتَفِتْ برصيصا إلاَّ بعد أربعين يَوماً، فلمَّا التفتَ بعد الأربعين رآهُ قائماً يصلِّي، فلما رأى برصيصا شدَّةَ اجتهادهِ وكثرةَ ابتهالهِ وتضرُّعه أقبلَ إليهِ، وقالَ: اطلُبْ حاجتَكَ، قال: حاجَتي أن تأذنَ لي فارتفعَ إليك فأكونَ في صَومَعَتِكَ، فأَذِنَ له فارتفعَ اليهِ.
فأقامَ في صَومعتهِ حَوْلاً كاملاً يتعبَّدُ، لا يفطرُ إلاّ في كلِّ أربعينَ يَوماً يوماً، ولا ينفتِلُ إلاّ في كلِّ أربعين يوماً يَوماً، فلما رأهُ بَرصِيصا ورأى شدَّةَ اجتهادهِ أعجبَهُ شأنهُ، وتقاصَرت عندهُ عبادةُ نفسهِ.
فلمَّا حالَ الحولُ قال الأبيضُ لبَرصِيصَا: إنِّي منطلقٌ إلى صاحبٍ لِي غيرك أشدُّ اجتهاداً منكَ، وإنه قد كان بلَغَني عنكَ من العبادةِ والاجتهاد غيرَ الذي أرَى منكَ، فدخلَ على برصِيصا من كلامهِ ذلك أمرٌ عظيم وكَرِهَ مفارقتَهُ لِمَا رأى من شدَّة اجتهادهِ في العبادةِ.
فلمَّا ودَّعَهُ قالَ له الأبيضُ: إنَّ عندي دَعَواتٍ أُعلِّمُكَها تدعو بها، فهي خيرٌ لكَ مما أنتَ فيه، يَشفَى بها السقيمُ، ويُعافَى بها الْمُبتَلى والمجنون، فقال بَرصِيصا: إنِّي أكرهُ هذه المْنزِلَةَ، وإنَّ لي في نفسي شُغلاً، وإنِّي أخافُ إنْ عَلِمَ الناسُ بذلك شغَلونِي عن العبادةِ. فلَم يزَلْ به الأبيضُ حتى علَّمَهُ.
وانطلقَ الأبيضُ حتى أتَى إبليسَ وقالَ له: قد واللهِ أهلكتُ الرجلَ. ثم انطلقَ الأبيضُ إلى رجلٍ فخنقَهُ، ثم جاءَ إلى أهلهِ في صُورَةِ طبيبٍ فقالَ لَهم: إنَّ بصاحبكم جُنوناً، فقالُوا له: عَالِجْهُ لنا وَدَاوهِ، فقالَ: إنِّي لا أقوَى على جِنِّيَّتِهِ! ولكن أرشِدُكم إلى مَن يدعُو له فيُعافَى، قالوا: دُلَّنَا. قال: انطلِقُوا إلى بَرصِيصا، فإن عندَهُ الاسمُ الأعظم الذي إذا دعَا اللهَ به أجابَ، فمَضَوا بصاحبهم إليه، فدعَا له بتلك الكلماتِ التي علَّمَهُ إياها، الأبيض فذهبَ عنه الشيطانُ.
ثم انطلقَ الأبيضُ إلى صبيَّة من بناتِ الملوك ولها ثلاثةُ إخوةٍ، وكان لهم عمٌّ هو ملكُ بني إسرائيلَ، فخنَقَها ثم جاءَ إليهم في صُورَةِ طبيبٍ، فعالَجها ودَاوَاها، فلم يذهَبْ عنها، فقالَ لَهم: إنَّ الذي عَرَضَ لها ماردٌ لا يُطَاقُ، ولكنِّي أرشِدُكم إلى رجُلٍ يدعُو لها بدَعَواتٍ فتُعافَى، قالوا: مَن هو؟ قالَ: بَرصِيصا. قالوا: وكيفَ يُجِيبُنا ذلك إلى هذا الأمرِ؟ وكيف يَقبَلُها منَّا؟ قال: ابْنُوا لَها صومعةً إلى جنب صَومَعتهِ وتكون لَزِيقاً بصومعتهِ، وقولوا لَهُ: هذه أمانَةٌ عندَكَ فاحتسِبْ فيها.
قالَ: فانطلَقُوا بها إليه فلم يقبَلْها، فبَنَوا لها صومعةً كما ذكرَ لهم الأبيضُ وترَكُوها فيها، وقالوا لبَرصِيصا: هذه أُختنا وقد عرضَ لها عدوٌّ من أعداءِ الله، فهي أمانةٌ عندَكَ فاحتسِبْ فيها، ثم انصرَفُوا. فلما انفتَلَ برصيصا عن صلاتهِ عَايَنها فرأى جَمالاً رَائِقاً وحُسْناً فائقاً فسَقَطَ في يديهِ، ودخلَ عليه أمرٌ عظيم، فجاءَها الأبيضُ فخنَقها، فلما رأى بَرصِيصا ذلك انفتلَ من صلاتهِ ودعا بتلكَ الدَّعوات، فذهبَ عنها الشَّيطانُ، ثم جاءَ الأبيضُ إلى برصيصا، قال: وأينَ تَجِدُ مثلَ هذه؟ واقِعْها وأنتَ تتوبُ بعدَ ذلك ولم يزَلْ به حتى واقَعَها، فأَقَامت معَهُ وهو يُواقِعُها حتى حَملَت وظهرَ حَملُها.
فقالَ له الأبيضُ: وَيْحَكَ! إنَّكَ قد افتُضِحتَ، فهل لكَ أنْ تَقتُلَها وتتوبَ؟ فإنْ سأَلُوكَ عنها فقل: جاءَ شَيطانُها فذهبَ بها ولم أُطِقْ، ففعلَ ذلك فقتَلَها ثم ذهبَ بها الى ناحيةٍ من الجبلِ ودفَنَها، فجاءَ الشيطانُ لَيلاً وهو يدفِنُها فجذبَ طرفَ إزارها حتى صارَ خارجاً من التُّراب، ثم رجعَ بَرصِيصا إلى صومعتهِ وأقبلَ على صلاتهِ.
فجاءَ إخوَتُها يتعَاهَدُونَهُ وكانوا في سائرِ الأيَّام يأْتُون بَرصِيصا ويتعَاهَدُون أُختَهم ويُوصُوه بها، فأَتَوهُ في هذه المرَّة كعادتِهم فلم يجدُوها، فقالو: أين ذهَبَتْ أُختنا؟ فقال بَرصِيصا: جاءَ شيطانُها فذهبَ بها ولم أُطِقْهُ، فصَدَّقوهُ، وانصرفوا عنه وهم مَكرُوبُونَ.
فجاءَهم الأبيضُ في صورةِ إنسان وأخبرَهم بالخبرِ وقال لَهم: هي مدفونةٌ في موضعِ كذا، وأنَّ برصيصا قد فعلَ بها كذا وكذا ثم قتَلَها ودفَنَها، وإنَّ طرفَ إزارها خارجاً من التُّراب. فانطَلُقوا فوجَدُوها كما قالَ فجمَعُوا لبرصيصا علماؤُهم وعساكِرُهم وجاءُوا بالفُؤوسِ والمسَاحِي فهدَمُوا صومعتَهُ وأنزلوهُ وكتَّفوهُ، وانطلَقُوا به إلى الْمَلِكِ مَغْلُولاً، فسألَهُ عن ذلك فأقرَّ على نفسهِ فصلبَهُ الملكُ على خشبةٍ.
فجاءَ إبليسُ إلى الأبيضِ فقالَ له: أيُّ شيءٍ صنعتَ في برصيصا، الآنَ يُقتَلُ ويكون قَتلهُ كفَّارةً لِمَا كان منهُ، وما يُغنِي عنكَ ما صنعتَ فيه؟! فقال الأبيضُ: أنا أكفيكَ فيه، فأتاهُ وهو مصلوبٌ، فقالَ له: يا برصيصا أتَعرِفُني؟ قالَ: لا، قال: أنا صاحبُكَ الذي علَّمتُكَ الدعوات، أما اتَّقيتَ اللهَ في أمانةٍ وُضِعَتْ عندكَ، خُنتَ أهلَها وأنتَ أعبَدُ بني إسرائيلَ، وما استَحيَيتَ من اللهِ، أما رَاقَبتَهُ في دِينك، فلم يَزَلْ يُعَيِّرهُ ويُوَبخهُ.
ثم قالَ له: وما كفاكَ ما صنعتَ حتى أقرَرْتَ على نفسِكَ، فَضَحْتَ أشياخَكَ، فإن مِتَّ في هذه الحالةِ لم تُفلِحُ أبداً. قال فكيفَ أصنعُ؟ قال: تُطِيعُني في خَصلَةٍ حتى أُنجِّيكَ مما أنتَ فيه، وآخُذ بأعيُنِهم وأُخرِجك من مكانِكَ، قالَ: وما هيَ؟ قال: تسجدُ لي سجدةً واحدة، قال: كيفَ أسجدُ لكَ وأنا مصلوبٌ على هذه الحالةِ؟ قال: أكتَفِي منكَ بالإيماءِ، فأَوْمَأَ بالسُّجودِ فكفرَ بذلك، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردتُ منكَ أنْ صارَتْ عاقبتُكَ إلَيَّ أنْ كَفرتَ برَبكَ، إنِّي بريءٌ منكَ، { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ }؛ ثم ذهبَ عنه وتركَهُ فقُتِلَ.
فضربَ اللهُ هذا مَثلاً لبني قريظةَ والنضير والمنافقين من أهلِ المدينة، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِي بني النضِير فدسَّ إليهم المنافقون أن لا يُجِيبُوا مُحَمَّداً إلى ما دعَاكُم ولا تَخرُجوا من دياركم، فإن قاتَلُوكم كنَّا معَكم، وإنْ أخرَجَكم خَرَجنا معكم، فأطَاعُوهم فدَرَبوا على حُصونِهم وتحصَّنوا في دورهم، فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحارَبَهم فناصَبوهُ الحربَ يرجُونَ نُصرةَ المنافقين، فخذلُوهم وتبرَّؤُا منهم كما يترَّأ الشيطانُ من برصيصا وخذلَهُ.