التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
-الأنعام

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }؛ قال ابن عبَّاس وسعيدُ بن جُبير في معنى هذه الآية: "جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَال لَهُ مَالِكُ بنُ الصَّيْفِ، وَكَانَ رَأسَ الْيَهُودِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أُنْشِدُكَ اللهَ يَا مَالِكُ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عليه السلام؛ أتَجِدُ فِيْهَا أنَّ اللهَ يَبْغَضُ الْحَبْرَ السَّمِيْنَ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِيْنُ، وَقَدْ سَمََّنَتْكَ مَأكَلَتُكَ الَّتِي ُتُطْعِمُكَ الْيَهُودُ، وَلَسْتَ تَصُومُ - أيْ وَلَسْتَ تُمْسِكُ - فَضَحِكَ بهِ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَغَضِبَ مَالِكٌ، وَكَانَ حَبْراً سَمِيْناً، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَقَالَ: مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ" .
وقال السُّدِّيُّ: (نَزَلَتْ في فِنْحَاصَ بْنِ زَوْرَاءَ؛ وَهُوَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ). وقال مُحمد بن كعبٍ: (جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَهُوَ مُحْتَبٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ألاَ تَأْتِيْنَا بكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، كَمَا جَاءَ بهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } [النساء: 153]. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ، وَلاَ عَلَى مُوسَى، وَلاَ عَلَى عيْسَى، وَلاَ عَلَى أحَدٍ شَيْئاً. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها: ما عَظَّمُوا اللهَ حقَّ عَظَمَتِهِ، ولا عَرَفُوهُ حقَّ معرفتِه إذ جَحَدُوا فقَالُوا: مَا أنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ؛ أي من كتابٍ ولا وَحْيٍ، { قُلْ }؛ لَهم يا مُحَمّدُ: { مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ }؛ يعني التوراةَ؛ { نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ }؛ أي ضياءً للناسِ وبياناً لَهم من الضَّلاَلة، { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ }؛ يكتبونَه صحائفَ، { تُبْدُونَهَا }؛ يظهرونَ ما فيها مما ليسَ فيه صفةُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وزمانُه ومبعثه ونبوَّتُه، { وَتُخْفُونَ كَثِيراً }؛ أي يسترون ما فيه صفةُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وبَعَثُهُ وآيةُ الرَّجمِ.
وقولُه تعالى: { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ }؛ يحتملُ أن يكون خطاباً للمسلمين، أي عُلِّمْتُمْ أنتم أيُّها المؤمنون من الأحكامِ والحدُودِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ. والأظهرُ: أنه خطابٌ لليهودِ؛ لأنه مَسُوقٌ على ما سبقَ، معناهُ: عَلِمْتُمْ بالقُرْآنِ ما كنتم أخْفَيْتُمُوهُ قبلَ نزولِ القُرْآنِ؛ لأنَّهم قد ضَيَّعُوا شيئاً كثيراً من الْقُرْآنِ والأحكامِ، وكانوا يُعَانِدُونَ ولا يعملونَ حتى صاروا كأنُّهم لم يعلمُوه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلِ ٱللَّهُ }؛ معناه: إنْ هم أجابُوكَ وقالوا: أعْلَمَنَا اللهُ، وإلا فَقُلْ: اللهُ عَلَّمَكُمْ. ويقال معناهُ: قُلِ اللهُ أنزلَ الكتابَ على موسى، { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }؛ أي دَعْهُمْ واتركهم في باطلِهم يَلْهُونَ، ويقال لكلِّ من عَمِلَ ما لا ينفعهُ: إنَّما أنْتَ لاَعِبٌ.
قال ابن عبَّاس: (فَلَمَّا رَجَعَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى قَوْمِهِ، قَالُواْ لَهُ: وَيْلََكَ! مَا هَذا الَّذِي بَلَغْنَا عَنْكَ، زَعَمْتَ أنَّهُ مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ! أرَأيتَ كِتَابَنَا مَنْ جَاءَ بهِ إلَى مُوسَى وَهُوَ بَشَرٌ؟! قَالَ: إنَّهُ قَدْ أَغْضَبَنِي، فَلِذلِكَ قُلْتُ مَا قُلْتُ. قَالُواْ: إذا غَضِبْتَ قُلْتَ غَيْرَ الْحَقِّ، وَاللهِ لاَ تَلِي لَنَا شَيْئاً، فَنَزَعُوهُ عَمَّا كَانَ يَلِي لَهُمْ، وَوَلَّواْ مَكَانَهُ كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ). قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو بالياء فيها على الإخبار، وقرأ الباقون بالتَّاء على الخطاب.