التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
-الجمعة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ }؛ يعني النداءَ إذا جلسَ الإمامُ على المنبرِ يومَ الجمُعة؛ لأنه لم يكُن على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نداءٌ سواهُ، كان إذا جلسَ على المنبرِ أذنَ بلالٌ على باب المسجدِ، وكذا كان على عهدِ أبي بكرٍ وعمرَ.
والنداءُ المشروع لهذهِ الصَّلاة الأذانُ الثانِي يقولهُ المؤذِّنُ عند صعودِ الإمام المنبرَ، كما رُوي عن السَّائب بن يزيدٍ أنه قال (مَا كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ يُؤَذِّنُ إذا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ يُقِيمُ إذا نَزَلَ، ثُمَّ أبُو بَكْرٍ كَذِلكَ، ثُمَّ عُمَرَ كَذلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي أيَّامِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ نِدَاءً غَيْرَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } يعني الذهابَ والمشيَ إلى الصَّلاةِ، والسَّعيُ: هو إجابةُ النِّداءِ في هذه الآيةِ، والمبادرةُ إلى الجمعةِ، وفي قراءةِ ابن مسعودٍ رضي لله عنه (فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللهِ) وكان يقولُ: (لَوْ أُمِرْتُ بالسَّعْيِ لَسَعَيْتُ حَتَّى سَقَطَ ردَائِي). وَقِيْلَ: السَّعيُ هنا هو العملُ إذا نُودِيَ للصَّلاة فاعمَلُوا على المعنَى إلى ذكرِ الله من التفرُّغِ له والاشتغالِ بالطَّهارة والغُسلِ والتوجُّه إليه بالقصدِ والنيَّة.
واختلفَ مشائخُنا: هل يجبُ على الإنسانِ الإسراعُ والعَدْوُ إذا خافَ فوتَ الجمُعة أم لاَ؟ قال بعضُهم: يلزمهُ ذلك بظاهرِ النصِّ، بخلاف السَّعيِ إلى سائرِ الجماعات لا يؤمرُ به وإنْ خافَ الفوتَ. وقال بعضُهم: لا يلزمهُ ذلك، وليس السَّعيُ إلاّ العملُ كما قال تعالى
{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إذا أتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَمَا أدْرَكْتُمْ فصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" ، وهذا عامٌّ في جميعِ الصَّلوات.
قال بعضُهم: فاسعَوا إلى ذكرِ اللهِ، يعني الصَّلاةَ مع الإمامِ، وذلك هو المرادُ بذكرِ الله. وقال بعضُهم: هي الخطبةُ لأنَّها تلِي النداءَ، عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ، فَإذا رَاحَ كَتَبَ اللهُ لَهُ بكُلِّ قَدَمٍ عَمَلَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ أُجِيزَ بعَمَلِ مِائَتَي سَنَةٍ" .
وعن أبي ذرٍّ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ، وَلَبسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيب بَيْتِهِ أوْ دُهْنِهُ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى وَزيَادَةَ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ بَعْدَهَا" .
وعن أنسٍ رضي الله عنه: "أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إنَّ هَذا يَوْماً جَعَلَهُ اللهُ عِيْداً لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا فِيْهِ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلاَ يَضُرُّهُ أنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بالسِّوَاكِ" .
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي رَأيْتُ تَحْتَ الْعَرْشِ سَبْعِينَ مَدِينَةً، كُلُّ مَدِينَةٍ مِثْلَ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً مَمْلُوءَةً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، يُسَبحُونَ اللهَ وَيُقَدِّسُونَهُ، وَيَقُولُونَ فِي تَسْبيحِهِمْ: اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ، اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا أرْبَعٌ وَعُشْرُونَ سَاعَةً، للهِ تَعَالَى فِي كُلِّ سَاعَةٍ سِتُّمِائَةِ ألْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّار" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ أحَدَكُمْ يَتَّخِذُ الضَّيْعَةَ عَلَى رَأسِ مِيْلٍ أوْ مِيلَيْنِ وَثَلاَثَةٍ، تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا، ثُمَّ تَأْتِي الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا، ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا، فَيُطْبَعُ عَلَى قَلْبهِ" .
وقال صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمُعَةِ: "مَنْ تَرَكَهَا اسْتِخْفَافاً بهَا أوْ جُحُوداً لَهَا، فَلاَ جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ وَلاَ بَارَكَ لَهُ فِي أمْرِهِ، ألاَ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ، ألاَ فَلاَ زََكَاةَ لَهُ، ألاَ فَلاَ صِيَامَ لَهُ، ألاَ فَلاَ حَجَّ لَهُ، إلاَّ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، فَإنْ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } قال الحسنُ: (إذا أذنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَحِلَّ الشِّرَاءُ وَلاَ الْبَيْعُ، فَمَنْ بَاعَ تِلْكَ السَّاعَةِ فَقَدْ خَالَفَ الأَمْرَ، وَبَيْعُهُ مُنْعَقِدٌ) لأنه نَهيُ تنْزيهٍ لقوله تعالى: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ }؛ وهذا على الترغيب في ترك البيع، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }؛ ما هو خيرٌ لكم وأصلحُ.
قرأ العامَّةُ (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) بضمَّتين، وقرأ الأعمشُ بجزم الميمِ وهما لُغتان، قال الفرَّاء: (وَفِيهَا لُغَةٌ ثَالِثَةٌ: جُمَعَةٌ بفَتْحِ الْمِيْمِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ ضُحَكَةٌ وَهُمَزَةٌ وَلُمَزَةٌ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ).
وإنَّما سُمِّي هذا اليومُ جُمعةً لما رُوي عن سَلمان قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"سُمِّيَتِ الْجُمُعَةُ جُمُعَةً لأَنَّ آدَمَ جُمِعَ فِيهَا خَلْقُهُ" . وَقِيْلَ: إنَّ الله تعالى فَرَغَ فيه من خلقِ المخلوقات. وَقِيْلَ: تجتمعُ الجماعاتُ فيها. وَقِيْلَ: لاجتماعِ الناسِ فيها للصَّلاة. وَقِيْلَ: أوَّلُ من سَمَّاها جُمعةً كعبُ بن لؤَيٍّ، وكان يقالُ ليومِ الْجُمعة: العُرُوبَةُ. وَقِيْلَ: أوَّل مَن سَمَّاها جُمُعَةً الأنصارُ.