التفاسير

< >
عرض

سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ
٧
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨
-المنافقون

التفسير الكبير

قولهُ تعالى: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ }؛ أي سواءٌ عليهم الاستغفارُ وتركهُ، { لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }؛ لإبطانِهم الكفرَ. وهذا في قومٍ مَخصُوصِينَ عَلِمَ اللهُ أنَّهم لا يُؤمنون فلم يستغفِرْ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ }.
"وذلك: أنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا نُزُولاً عَلَى الْمَاءِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، إذْ وَقَعَ بَيْنَ غُلاَمٍ لِعُمَرَ رضي الله عنه مِنْ بَنِي غِفَارٍ يَقُالُ لَهُ: جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُودُ لِعُمَرَ فَرَسَهُ وَبَيْنَ غُلاَمٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أبي سَلُولٍ يُقَالُ لَهُ: سِنَانُ الْجُهَنِيُّ، فَأَقْبَلَ جَهْجَاهُ يَقُودُ فَرَسَ عُمَرَ فَازْدَحَمَ هُوَ وَسِنَان عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلاَ، فَصَرَخَ سِنَانُ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، وَصَرَخَ الْغِفَاريُّ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. فَاشْتَبَكَ النَّاسُ وَعَلَتِ الأَصْوَاتُ.
فَقَالَ عبْدُاللهِ بْنُ أبَيٍّ: مَا أدْخَلْنَا هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فِي دِيَارنَا إلاَّ لِيَرْكَبُوا أعْنَاقَنَا، وَاللهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إلاَّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! أمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ، يَعْنِي الأَعَزَّ نَفْسَهُ وَالأَذلَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم! ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذا مَا فَعَلْتُمُوهُ لِنَفْسِكُمْ أحْلَلْتُمُوهُمْ بلاَدَكُمْ، قَاسَمْتُمُوهُمْ أمْوَالَكُمْ، أمَا وَاللهِ لَوْ أمْسَكْتُمْ طَعَامَكُمْ وَمَنَعْتُمْ أصْحَابَ هَذا الرَّجُلِ الطَّعَامَ لَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا إلَى عَشَائِرِهِمْ، وَتَحَوَّلُوا عَنْ بلاَدِهِمْ، فَلاَ تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفَضُّوا؛ أيْ يَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِ مُحَمَّدٍ.
فَسَمِعَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ كَلاَمَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ أنْتَ الذلِيلُ الْبَغِيضُ، الْقَلِيلُ الْمَبْغُوضُ فِي قَوْمِكَ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي عَزِّ الرَّحْمَنِ وَعِزَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: ثُمَّ ذهَبَ زَيْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرَهُ بذلِكَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه فَقَالَ: دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذْ تَرْعَدُ لَهُ أنْفٌ كَثِيرٍ بيَثْرِبَ. فَقَالَ عُمَرُ: فَإنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَمُرْ سَعِدَ بْنَ مُعَاذٍ أوْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أوْ عَبَّادَ بْنَ بشْرٍ فَلْيَقْتُلُوهُ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذا تَحَدَّثَ النَّاسُ أنَّ مُحَّمَداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ؟ لاَ وَلَكِنِ أذِّنْ بالرَّحِيلِ وَذلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُرْتَحَلُ فِيْهَا، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: أنْتَ صَاحِبُ هَذا الْكَلاَمِ الَّذِي بَلَغَنِي؟ فَقَالَ: وَالَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا قُلْتُ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ، وَإنَّ زَيْداً لَكَاذِبٌ.
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفاً عَظِيماً، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الأَنْصَار: يَا رَسُولَ اللهِ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ، لاَ تُصَدِّقْ عَلَيْهِ كَلاَمَ صَبيٍّ مِنْ غِلْمَانِ الأَنْصَار، عَسَى أنْ يَكُونَ هَذا الصَّبيُّ وَهِمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ، فَعَذرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفَشَتِ الْمَلامَةُ مِنَ الأَنْصَار لِزَيْدٍ وَكَذبُوهُ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: مَا أرَدْتَ يَا وَلَد إلاَّ أنْ كَذبَكَ رَسُولُ اللهِ وَالنَّاسُ وَمَقَتُوكَ. وََكَانَ زَيْدٌ يُسَايرُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحَى بَعْدَ ذلِكَ أنْ يَدْنُو مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَبَلَغَ وَلَدَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا كَانَ مِنْ أمْرِ أبيهِ، فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ لِمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَمُرْنِي فَأَنَا أحْمِلْ إلَيْكَ دُأبَتَهُ، وَإنِّي أخْشَى أنْ تَأْمُرَ بهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلاَ تَدَعُنِي نَفْسِي أنْ أنْظُرَ إلَى قَاتِلِهِ يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ، فَأَخَافُ أنْ أقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِناً بكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: بَلْ تَرْفُقُ بهِ وَتُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا.
وَكَذلِكَ جَاءَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ كُنْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْشَى فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: أوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ؟ زَعَمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ فَقَالَ أُسَيْدُ: بَلْ أنْتَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللهِ الذلِيلُ وَأنْتََ الْعَزِيزُ، فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ بكَ، وَإنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظُمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتوِّجُوهُ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكَهُ.
ثم سارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى وافَى المدينةَ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } الآية إلى قولهِ: { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ }؛ فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأُذُنِ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا زَيْدُ إنَّ اللهَ صَدَّقَكَ.
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ بقُرْب الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَدْخُلَهَا جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ حَتَّى أنَاخَ عَلَى مَجَامِعِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَمَنَعَ أبَاهُ أنْ يَدْخُلَهَا، فَقَالَ لَهُ: مَا لكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ! وَاللهِ لاَ تَدْخُلُهَا أبَداً إلاَّ أنْ يَأْذنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِتَعْلَمَنَّ الْيَوْمَ مَنِ الأَعَزُّ وَمَنِ الأَذلُّ.
فَشَكَا عَبْدُاللهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا مَنَعَ ابْنَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنْ دَعْهُ يَدْخُلُ فَقَالَ: أمَّا إذا جَاءَ أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَعَمْ. فَلَبثَ بَعْدَ أنْ دَخَلَ أيَّاماً قَلاَئِلَ ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ"
.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي هو الرزَّاقُ لهؤلاءِ المهاجرِين لاَ هُوَ؛ لأنَّ خزائنَ السَّماوات والأرضِ المطرَ والنباتَ، وهما للهِ فلا يقدرُ أحدٌ أن يُعطِي شيئاً إلاَّ بإذنهِ ولا يمنعهُ شيئاً وبمشيئتهِ { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } إنما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً أنْ يقول له كُنْ فيكونُ.
وقال الجنيدُ: (خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ الْغَيْبُ، وَخَزَائِنُ الأَرْضِ الْقُلُوبُ، وَهُوَ عَلاَّمُ الْغُيُوب مُقَلِّبُ الْقُلُوب). وقال رجلٌ لحاتم الأصَمّ: (من أين تأكل؟ فقال: { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ } يعني مِن هذه الغَزوَةِ وهي غزوةُ بني الْمُصْطَلِقِ حيٌّ من هُذيلٍ، { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } قد ذكرنا قائلَ هذه المقالة وهو عبدُالله بن أُبَي.
قِيْلَ: إنَّ إبنَهُ عبدُالله قَالَ لَهُ: أنْتَ وَاللهِ الأَذَلُّ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأَعَزُّ. وكان عبدُالله بن أُبَي يعني بالأعزِّ نفسَهُ، فردَّ اللهُ عليه فقال: { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }؛ فعزَّةُ الله تعالى بقَهرهِ لخلقهِ، ولرَسُولهِ بإظهار دينهِ على الأديان كلِّها، وعزَّةُ المؤمنين نَصرهُ إيَّاهم على أعدائِهم فهم ظَاهِرُونَ. وقولهُ تعالى: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }؛ ولو عَلِمُوا ما قالوا هذه المقالةَ.