التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٨
-التحريم

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً }؛ قال ابنُ عبَّاس: (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: هِيَ النَّدَمُ بالْقَلْب، وَالاسْتِغْفَارُ باللِّسَانِ، وَالإقْلاَعُ بالْبَدَنِ، وَالإضْمَارُ عَلَى أنْ لا يَعُودَ). "وعن معاذِ بن جبلٍ قالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟ قَالَ: أنْ يَتُوبَ التَّائِبُ ثُمَّ لاَ يَرْجِعُ فِي ذلِكَ، كَمَا لاَ يَعُودُ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ" .
قَالَ ابنُ مسعودٍ: (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أنْ تُكَفِّرَ كُلَّ سَيِّئَةٍ)، وقال أبو ذرٍّ: (النَّصُوحُ: الصَّادِقَةُ) أي يتُوبوا توبةً صادقةً، يقالُ: نَصحتُه أي صدَّقتُه. وَقِيْلَ: النَّصُوحُ المستقيمةُ الُمُتْقَنَةُ التي لا يلحقُها النقصُ والإبطالُ. وقال الفُضيل: (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: أنْ يَكُونَ الذنْبُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ)، وقال أبُو بكرٍ الورَّاقُ: (هُوَ أنْ تَضِيقَ الأَرْضُ عَلَيْكَ بَما رَحُبَتْ، وَتَضِيقَ عَلَيْكَ نَفْسُكَ كَتَوْبَةِ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). وقال الدقَّاقُ: (هِيَ رَدُّ الْمَظَالِمِ، وَاسْتِحْلاَلُ الْخُصُومِ، وَإدْمَانُ الطَّاعَاتِ).
وقال ذو النُّون: (عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةُ أشْيَاءٍ: قِلَّةُ الْكَلاَمِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ، وَقِلَّةُ الْمَنَامِ). وقال بعضُهم: هي أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح وقلبٌ من المعاصِي جموحٌ، فإذا كان كذلك فيه توبةٌ نصوحٌ.
وقال فتحُ الْمَوْصِليُّ: (عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةٌ: مُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ، وَمُكَابَدَةُ الْجُوعِ وَالظَّمَأ). وقال شقيقُ الْبَلْخِيُّ: (هِيَ أنْ يُكْثِرَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ الْمَلاَمَةَ، وَلاَ يُقْلِعُ مِنَ النَّدَامَةِ). وقال الجنيدُ: (هِيَ أنْ يَنْسَى مَا سِوَى اللهِ، وَلاَ يَذْكُرُ إلاَّ اللهَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ }؛ هذا وعدٌ من اللهِ لأنَّ { عَسَىٰ } من الله واجبَةٌ، والصَّلواتُ الخمسُ كفَّاراتٌ لما بينهنَّ ما اجتُنِبَتِ الكبائرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ }؛ أي يُكرِمُ اللهُ تعالى المؤمنين بهذه الكرامةِ في يومٍ لا يسوءُ اللهُ النبيَّ ولا يُخجِلُهُ وَلا يسوء { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ }؛ والمعنى: لا يُدخِلُهم اللهُ النارَ.
وقوله: { نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }؛ ليدلهم في الجنَّة، { وَبِأَيْمَانِهِمْ }؛ يعني نورَ كتابهم الذي يُعطونَهُ بها، { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا }؛ أي يقولون ذلك بعدَ ما ذهبَ نورُ المنافقِين، والمعنى: أتْمِمْ لنا نُورَنا على الصِّراطِ إلى أن ندخلَ الجنة، { وَٱغْفِرْ لَنَآ }؛ ما سَلَفَ من ذُنوبنا، { إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }؛ من إتْمَامِ النور والمغفرة، فيجيبُ الله دعاءَهم ويفعلُ ذلك لَهم، فيكون الصِّراطُ على المؤمنين كما بين صنعاءَ والمدينة، يمشِي عليه بعضُهم مثلَ البرقِ، وبعضُهم مثلَ الريحِ، وبعضهم كعَدْو الفرسِ، وبعضهم يمشِي وبعضهم يزحفُ، ويكون على الكافرين كحدِّ السيف مذهبه.