التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ
١٥٠
-الأعراف

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً }؛ أي رجعَ مُوسَى من الجبلِ إلى قومهِ شديدَ الغضب حَزِيناً، { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ }؛ فَعَلْتُمْ خَلْفِي في غَيبَتِي بعبادةِ العجل، { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ }؛ معناهُ: أسْتَبْطَأْتُمْ وعدَ ربكم الذي وعدَ في أربعين ليلةٍ، { وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ }؛ مِن يده التي كانت فيها التوراةُ وألقاها من يدهِ، { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (أخَذ رَأسَهُ بيَدِهِ الْيُمْنَى وَلِحْيَتَهُ بيَدِهِ الْيُسْرَى).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي }؛ أي قَهَرُونِي واستذلُّونِي وهَمُّوا بقتلِي، وكان هارون أخاهُ لأبيهِ وأُمِّهِ ولكنَّهُ قال (يَا ابْنَ أُمَّ) لِتَرَفُّقِهِ عليه، وعلى هذه طريقةُ العرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ }؛ لا تُفَرِّحْهُمْ عليَّ ولا تظُنَّ أنِّي رضيتُ بفعلِ القوم الظالمين، { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ }؛ فلا تجعَلني مع عَبَدَةِ العجلِ في الغضب عليَّ، وكان هارونُ أكبرَ من موسى بثلاثِ سنين، وأحبَّ إلى بني إسرائيلَ من موسى.
قرأ ابنُ عبَّاس والكوفيُّون إلاَّ حفصاً (يَا ابْنَ أُمِّ) بكسرِ الميم هُنا، وفي طه فحَذفُوا ياءَ الإضافةِ؛ لأنَّ مَبْنَى النداءِ على الحذفِ، وبقِيَتِ الكسرةُ على الميمِ دَليلاً على ياءِ الإضافةِ كقولهِ (يَا عِبَادِ، وَيَا قَوْمِ)، وقرأ ابنُ السُّمَيقِعِ (يَا ابْنَ أُمِّي) باثباتِ الياء، وقرأ الباقون بفتحِ الميمِ على معنى يا ابنَ أُمَّاهُ.
وقولهُ تعالى: { ٱسْتَضْعَفُونِي } بعبادةِ العجلِ، وقولُه تعالى: { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ }، قرأ مجاهدُ ومالكُ بن دينارٍ: (فَلاَ تَشْمَتْ) بفتح التاءِ والميم، ورفعِ (الأَعْدَاءُ)، والشَّماتَةُ هي سرورُ العدوِّ.
فإنْ قِيْلَ: لِمَ جازَ لموسى أن يُجرَّ برأسِ هارون ولحيتهِ، والانبياءُ لا يجوز لأحدٍ أن يستخفَّ بهم، وكان هارونُ نبيّاً؟ قِيْلَ: إنَّ هذا كان منهُ على جهةِ العِتَاب لا على جهةِ الْهَوَانِ. وَقِيْلَ: لأنه أجراهُ مجرَى نفسهِ من حيث أنَّهما كانَا في النبوَّةِ والأُخوَّةِ كالنفسِ الواحدة، وقد يقبضُ الإنسانُ عند الغَيْظِ على لحيةِ نفسه، ويعُضُّ إبْهامَيْهِ وشَفَتيه، كما رُوي (أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَتَلَ شَاربَهُ).
إلاَّ أنَّ هارونَ خافَ أن يتوهَّم جُهَّالُ بني إسرائيل أنَّ موسى غضبانٌ عليه كغَضَبهِ على مَن عَبَدَ العجلَ، فقالَ: { ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي... } الآية. وَقِيْلَ: إنَّ موسى فَعَلَ هذا بهارون في حالةِ الغضب التي لا يملكُ الإنسانُ فيها نفسَهُ، وكان ذلك صغيرةً منه، كما ألقَى الألواحَ لشدَّة الغضب، وكان الواجبُ عليه أن يُعَظِّمَها.