التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
-الأعراف

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }؛ قال المفسِّرون: لَمَّا خلقَ الله آدمَ مَسَحَ ظهرَهُ، وأخرجَ منه ذُرِّيَّتَهُ كلَّهم كهيئَةِ الذرِّ، واختلفوا في موضعِ الميثاق، فقال ابنُ عبَّاس: (هُوَ بَطْنُ نُعْمَانَ وَادٍ جَنْبَ عَرَفَةَ)، وَقِيْلَ: هي أرضُ الهندِ، وقال الكلبيُّ: (هُوَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ).
وقال السديُّ: (أخْرَجَ اللهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُهْبطْهُ إلَى الأَرْضِ، فَأَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُ وَكُلُّ مَنْ هُوَ خَارجٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ ظَهْرِهِ الْيُمْنَى ذُرَّيَّةً صِغَاراً بيْضاً مِثْلَ اللُّؤلُؤِ، فَقَالَ لَهُمْ: أُدْخُلُوا الْجَنَّةَ برَحْمَتِي، وَأخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى ذُرِّيَّةً سُوداً، وَقَالَ لَهُمْ: أُدْخُلُواْ النَّارَ وَلاَ أُبَالِي).
فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } [الواقعة: 27]، { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } [الواقعة: 8-9]، وركَّب فيهم جميعَ العقُولِ حتى سَمِعُوا كلامَ اللهِ وفَهِمُوا خطابَهُ، فقال لَهم: اعلَمُوا أنه لا إلَهَ غَيْرِي، ولا ربَّ لكم سِوَايَ، فلا تُشرِكُوا بي شيئاً، وأنِّي مُرسِلٌ إليكم رسُلاً يذكِّرونكم عَهدِي وميثاقي ومنَزِّلٌ عليكم كِتَاباً فَتَكَلَّموا ألستُ بربكم؟ فقالوا: بلَى، شهِدْنا أنَّك ربُّنا وإلَهُنا لا ربَّ غيرُكَ. فأقَرُّوا كلُّهم طائعين، وأخذ بذلك ميثاقَهُم وكتبَ آجالَهم وأرزاقَهم ومُصابَهم.
فنظرَ إليهم آدمُ عليه السلام فرأى فيهم الغنِيَّ والفقيرَ، وحسَنَ الصُّورة وغير ذلك، فقال: يا رب لو شِئْتَ سوَّيتَ بينهم، قال: ونظرَ إلى الأنبياءِ بينهم يومئذ مثل السُّرُجِ، فلما أخذ عليهم الميثاقَ ردَّهم إلى صُلب آدمَ، فالناسُ محبوسون في أصلابٍ آبائهم حتى يخرجَ كلُّ من أخرجَهُ في ذلك الوقتِ، وكلُّ مَن ثبتَ على الإسلامِ فهو على الفطرةِ الأُولى، وكلُّ مَن جَحَدَ وكفَرَ، فإنَّما تغيَّرَ عنها، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم:
"كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يَهُوِّدَانِهِ وَيُنْصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِراً وإمَّا كَفُوراً" فَلا تقومُ الساعة حتى يولدَ كلُّ مَن أخذ ميثاقهُ، لا يزيد فيهم ولا ينقصُ منهم.
وتقديرُ الآية: وإذْ أخذ ربُّك من ظهورِ بني آدم ذرِّياتِهم، ولَمْ يذكُرْ ظهرَ آدم، وإنَّما أُخرِجُوا يومَ الميثاق من ظهرهِ؛ لأنه أخرجَ ذرِّيةَ آدمَ بعضُهم من ظهرِ بعض على نحو ما يتولَّدُ الأبناءُ من الآباءِ، فاستغنَى عن ذكرِ ظَهْرِ آدمَ بقولهِ: { مِن بَنِيۤ ءَادَمَ }؛ لأنه قد عُلِمَ أنَّهم كلُّهم بنوهُ، وأُخرجُوا من ظهرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { شَهِدْنَآ }؛ يجوزُ أن يكون هذا مِن قول الذينَ أُخِذ عليهم الميثاقُ. ثُم ابتدأ فقال تعالى: { شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ }؛ ويجوز أنْ يكون تَمامُ الكلامِ عند قوله: { بَلَىٰ } ثم يقولُ الله تعالى: شَهِدنَا عليكم، وأخَذْنَا الميثاقَ كَيْلاَ يقولُوا يومَ القيامةِ: { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } أي عن هذا الميثاقِ والإقرارِ.