التفاسير

< >
عرض

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
١
يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
٢
وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً
٣
-الجن

التفسير الكبير

{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً }؛ وذلك أنَّ السماءَ لم تكن تُحرَسُ فيما بين عيسَى ومُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فلمَّا بعثَ اللهُ مُحَمَّداً نبيَّنا حُرست السماءُ ورُميتِ الشياطين بالشُّهب، فلم يبقَ صنمٌ إلاّ خرَّ لوجههِ.
فقال إبليسُ للجنِّ: لقد حدثَ في الأرضِ حَدَثٌ لم يحدُثْ مثلَهُ، ولا يكون هذا إلاَّ عند خروجِ نبيٍّ، ففرَّقَ جُندَهُ في الطلب وأمرَهم أن يضربوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، وبعثَ تسعةَ نفرٍ من أشرافِ جنِّ نصيبين إلى أرضِ تُهامة، وكان رئيسُهم يسمَّى عمرواً، فلما انتَهوا إلى بطنِ نخلةَ وجَدُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَائماً يُصلِّي بأصحابهِ صلاةَ الفجرِ.
فلمَّا سمِعُوا القرآنَ رقَّت له قلوبُهم، ودنَا بعضُهم من بعضٍ حُبّاً للقرآنِ حتى كَادُوا يتساقَطون على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم، وقالُوا: هذا الذي حالَ بينَنا وبين خبرِ السَّماء، فذلك قَوْلُهُ تَعالَى:
{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } [الأحقاف: 29] فآمَنُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ورجَعُوا إلى قومِهم مُنذرين، ولم يأْتُوا إبليسَ.
وقالوا لقَومِهم: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } أي بَليغاً ذا عَجَبٍ يُعجَبُ من بلاغتهِ وحُسنِ نَظْمِهِ، { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ }؛ أي يَدعُو إلى الصَّواب من التوحيدِ والإيمان، { فَآمَنَّا بِهِ }؛ وصدَّقنَا به أنَّهُ مِن عندِ الله، { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً }؛ من بعدِ هذا اليومَ، كما أشركَ إبليسُ.
"فاستجابَ لهم جماعةٌ من الجنِّ فجَاءوا بهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأقرَأهُم القرآنَ فآمَنُوا به، وقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الأَرْضَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجْلٌ لَيْسَ لَنَا فِيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَكُمُ الرَّوْثُ وَكُلُّ أرْضٍ سَبْخَةٍ تَنْزِلُونَ بهَا تَكُونُ مُكَلَّبَةً لَكُمْ، وَلَكُمُ الْعَظْمُ، وَكُلُّ عَظْمٍ مَرَرْتُمْ عَلَيْهِ تَجِدُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ حَيْثُ يَكُونُ" .
ثُم يُكرَهُ أن يُستَنجَى بالعظمِ والرَّوثِ. ثم انصرَفتِ الجنُّ عنه، فأوحَى اللهُ إليه بهذه الآياتِ لبيان أنَّ الجنَّ لَمَّا ظهرَ لهم الحقُّ اتبعوهُ، فالإنسُ أولى بذلك لأنَّهم ولدُ آدمَ، فكان المخالفُ منهم ألْوَمَ.
ومعنى الآيةِ: قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة: أُوحِيَ إلَيَّ أنه استمعَ إلى القرآنِ طائفةٌ من الجنِّ، فلمَّا رجَعُوا إلى قومِهم قالُوا: يا قومَنا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } بعدَ هذا اليومِ؛ أي لا نتَّبعُ إبليسَ في الشِّركِ، { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }؛ هذا من قولِ الجنِّ لقَومِهم، معطوفٌ على قولهِ { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } وإنَّهُ تعالَى جَدُّ ربنا وعظَمتهُ عن أنْ يتَّخِذ صاحبةً أو ولداً، وهذا كما يقالُ: فلانٌ أعظمُ وأجَلُّ مِن أن يفعلَ كذا وكذا، فالْجَدُّ: الْعَظَمَةُ، وقال الحسنُ: (مَعْنَى الْجَدِّ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْغِنَى) ومنهُ قولهم في الدُّعاء:
"وَلاَ يَنْفَعُ ذا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" أي لا يَنْفَعُ ذا الغِنَى منكَ غناهُ.