التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١١
-التوبة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ }؛ معناهُ: إنَّ اللهَ طلبَ المؤمنين أن يعدُّوا أنفسَهم وأموالَهم ويخرجوا إلى الجهادِ في سبيل الله ليُثيبهم الجنةَ على ذلك.
فإن قِيْلَ: كيف يصحُّ شراءُ الجنَّة على ذلكَ وهي مملوكةٌ لله تعالى؟ وكيف يشترِي أحدٌ ملكه يملكهُ؟ قِيْلَ: إنما ذكر هذا على وجهِ التلطُّف للمؤمنين في تأكيدِ الجزاء كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245] فذكرَ الصدقةَ بلفظِ القَرْضِ للتحريضِِ على ذلك والترغيب فيه، إذِ القرضُ يوجب ردَّ المفلسِ لا محالةَ، وكأن اللهُ عَامَلَ عبادَهُ معاملةَ مَنْ هو غيرُ مالكٍ، وعن جعفر الصَّادق أنه كان يقولُ: (يَا ابْنَ آدَمَ اعْرِفْ قَدْرَ نَفْسِكَ، فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَرَّفَكَ قَدْرَكَ وَلَمْ يَرْضَ أنْ يَكُونَ لَكَ ثَمَنٌ غَيْرُ الْجَنَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ }؛ فيه بيانُ عرضِ الذي لأجلهِ اشترَاهُم، وهو أن يُقاتِلوا العدوَّ في طاعةِ الله، ومعناهُ: فيَقْتُلُونَ المشركين، ويقتلهم المشركون، وعلى هذا أكثرُ القرَّاء، حمزةُ والكسائي (فَيُقْتُلُونَ) بالرفعِ، (وَيَقْتُلُونَ) بالنصب، واختارَ الحسنُ هذه القراءةَ لأنه إذا قُرئ هكذا كان تسليمُ النفسِ إلى الشِّراء أقربُ، وإنما يستحقُّ البائعُ تسليمَ الثمن إليه تسليمَ المبيع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً }؛ نُصِبَ على المصدرِ؛ أي أوجبَ اللهُ لهم الجنَّةَ ووعدَهم وعدَ حقٍّ منه لَهم، وإنَّما قال (حَقّاً) للفصلِ بين الوعدِ الذي حجرهُ على وجهِ الجزاء لهم على العملِ، وبين الوعدِ ينجزهُ للتصديقِ على وجه التفضِيل لا الجزاءِ لهم على العملِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ }؛ أي أوجبَ اللهُ الجنةَ للمؤمنين في جميعِ كتُبهِ التي أنزَلَها اللهُ على أنبيائهِ عليهمُ السلام، قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ }؛ أي ليس أحدٌ أوْفَى من اللهِ في وعدهِ وشَرطِه، وعَدَكم وعداً ولا يخلفُ لوعدهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ }؛ أي ببيعكُم أنفسَكم من اللهِ، فإنه لا يشرِي أرفعُ من اللهِ سبحانَهُ، ولا ثمنَ أعلى من الجنَّة. وَقِيْلَ: إنَّ هذا أُنزل في الذين بايَعُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيعةَ الرضوانِ تحتَ الشجرةِ، ثم صارَ عامّاً في كلِّ مَنْ يعملُ مثلَ عَملِهم.
قال محمَّد بن كعب:
"لَمَّا بَايَعَتِ الأنْصَارُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بمَكَّةَ وَهُمْ سَبْعُونَ نَقِيباً، قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرِطْ لِرَبكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتُ، فَقَالَ: اشْتَرِطُ لِرَبي أنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً، وَأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أنْفُسَكُمْ وَأمَوالَكُمْ قَالُوا: وَإذا فَعَلْنَا ذلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، قَالَ: رَبحَ الْبَيْعُ لاَ نُقِيلُ وَلاَ نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } ثُمَّ هَدَاهُمْ اللهُ بقَوْلِهِ { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ }" .
قال الحسنُ: (اسْمَعُواْ إلَى بَيْعَةٍ رابحَةٍ بَايَعَ اللهُ بهَا كُلَّ مُؤْمِنٍ، وَاللهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ إلاَّ وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ). قال: "وَمَرَّ أعْرَابيٌّ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ: كَلاَمُ مَنْ هَذا؟ فَقَالَ: كَلاَمُ اللهِ تَعَالَى وقَالَ: بَيْعٌ وَاثِقٌ مُرْبحٌ لاَ نُقِيلُهُ وَلاَ نَسْتَقِيلهُ، فَخَرَجَ إلَى الْعَدُوِّ فَاسْتُشْهِدَ" . وأنشدَ الأصمعيُّ لجعفرَ رضي الله عنه:

أثامِنُ بالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ثَمَنْ
بهَا تُشْتَرَى الْجَنَّاتُ إنْ أنَا بعْتُهَا بشَيْءٍ سِوَاهَا إنَّ ذلِكُمْ غُبْنْ
لَئِنْ ذهَبَتْ نَفْسِي بدُنْيَا أصَبْتُهَا لََقَدْ ذهَبَتِ نَفْسِي وَقَدْ ذهَبَ الثَّمَنْ

وكان جعفرُ الصادق يقول: (أيَا مَنْ لَيسَتْ لَهُمْ عَنْهُ إنَّهُ لَيْسَ لأَبْدَانِكُمْ بثَمَنٍ إلاَّ الْجَنَّةُ، فَلاَ تَبيعُوهَا إلاَّ بهَا). وأنشدَ أبو علي الكوفي:

مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً فِي عَدْنٍ عَالِيَةً فِي ظِلِّ طُوبَى رَفِيعَاتٌ مَبَانِيهَا
دَلاَّلُهَا الْمُصْطَفَى وَاللهُ بَائِعُهَا مِمَّنْ أرَادَ وَجِبْرِيلُ مُنَادِيهَا

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }؛ أي النجاةُ العظيمة والثوابُ الوافر؛ لأنَّها نَيْلُ الجنَّة الباقيةِ بالنفسِ الفانية.