التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
-التوبة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ }؛ "وذلك أنَّ كفارَ مكَّة لَمَّا أرادُوا قتلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أخبرَهُ جبريلُ بذلك وأمرَهُ بالخروجِ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: نَمْ مَكَانِي عَلَى الْفِرَاشِ وخرجَ مع أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى غار جبَلِ ثَورٍ - وهو جبلٌ بأسفلِ مكَّة - ومشَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أطرافِ أصَابعهِ حتى حَفِيَتْ، فلمَّا رآهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وجعلَ يستندُ به حتى أتَى فمَ الغار، وكان الغارُ مَقرُوناً بالْهَوَامِّ، فلما أرادَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخولَ الغارِ قال له أبُو بكرٍ رضي الله عنه: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَارَ. فدخلَ واستبرأهُ وجعلَ يُسَوِّي الْجُحْرَةَ بثيابهِ خِشيَةَ أن يخرجَ منها شيءٌ يؤذِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبَقِيَ جُحْرَانِ فوَضَعَ عَقِبَهُ عليهما ثم قال: إنْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فنَزلَ فكانا في الغار ليلتَهما.
فدخلَ الكفِّارُ على عِليٍّ رضي الله عنه فقالوا لَهُ: يا عليُّ أين مُحَمَّدٌ؟ فقالَ: لاَ أدْري أيْنَ ذهَبَ، فطلبوهُ من الغدِ واستأجَرُوا رجُلاً يقال له كَرْزُ بن علقمةَ الجرَّاح، فَقَفَا لهما الأثرَ حتى انتهَى بهم إلى جبلِ ثَورٍ، فقالَ: انتهينا إلى هنا وهذا أثرهُ فما أدري أينَ أخذَ يَميناً أو شمالاً أو صعدَ الجبلَ، فصَعَدُوا الجبلَ يطلبونَهُ، وأعمَى اللهُ عليهم مكانَهُ فلم يهتَدُوا إليه.
فقامَ رجلٌ منهم يبولُ مستقبلاً رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبَا بكرٍ بعورتهِ، فقال أبُو بكرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أرَاهُ إلاَّ قَدْ أبْصَرَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَوْ أبْصرَنَا مَا يَسْتَقْبلُنَا بعَوْرَتِهِ. وأقبلَ شبابُ قريشٍ من كلِّ بطنٍ، معهم عِصِيُّهم وقِسيُّهم حتى رَأوا بابَ الغار، وكان صلى الله عليه وسلم مرَّ على ثُمامَةٍ وهي شجرةٌ صغيرة ضعيفة فأمرَ أبا بكرٍ أن يأخُذَها معه، فلما سارَ إلى باب الغار أمرَهُ أن يجعلَها على باب الغار، وألْهَمَ اللهُ العنكبوتَ فنسجَتْ حتى ستَرت وجهَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبَهُ، وبعثَ اللهُ حمامَتين وحشِيَّتين فأقبَلتا حتى وقعتَا على باب الغار بين العنكبوتِ وبين الشجرة، فلما رأى المشركون الشجرة والحمامةَ، ونسجَ العنكبوتِ علِمُوا أنْ ليس في الغار أحدٌ، وكان أبو بكرٍ يقولُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أتِيْنَا وَمَا أنا إلاَّ رجُلٌ وَاحدٌ، فَإنْ قُتِلْتَ أنْتَ تَهْلَكُ هَذِهِ الأُمَّةُ فَلاَ يُعْبَدُ اللهُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، فقال: لاَ تَحْزَنْ يَا أبَا بَكْرٍ إنَّ اللهَ مَعَنَا.
ثم نزلَ المشركون من الجبلِ، ولم يقدِرُوا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمكثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالغارِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيهنَّ، وكان عبدُاللهِ بن أبي بكرٍ يأتِيهما بأخبارِ أهل مكَّة، فلما أمِنَا طلبَ القوم وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالهجرة إلى المدينةِ، فاستأجرَ رجُلاً يقالُ له عبدُالله بن أُرَيقِطْ يَهدِيهم الطريقَ إلى المدينةِ فخرجَ بهما إلى المدينةِ، فسَمِعَ سُراقَةُ بن مالك بن مقسم الكِنَانِي بخرُوجهِ إلى المدينةِ، فلَبسَ لاَمَتَهُ وركِبَ فرسَهُ يتَّبعُ آثارَهم حتى أدركَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فدعَا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَاخَتْ قوائمُ فرسهِ، فقالَ: يَا مُحَمَّدُ أُدْعُ اللهَ أنْ يُطْلِقَ عَلَيَّ فَرَسِي فَأَرْدُّ عَنْكَ مَنْ أرَى مِنْ النَّاسِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ صَادِقاً فَأطْلِقْ فَرَسَهُ فرجعَ سُراقة وقَدِمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى أتيَا المدينة"
. هكذا رُويَ وفي هذا قصَّةٌ طولةٌ.
ومعنى الآية: ألاَّ تنصُروا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم في الخروجِ معه إلى تَبُوكِ فاللهُ ينصرهُ كما نصرَهُ إذ أخرجَهُ الكفارُ من مكَّة وهو ثانِيَ اثنينِ، أي لم يكن معَهُما غيرُهما، وقولهُ تعالى { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } نُصِبَ على الحالِ؛ أي وهو أحدُ اثنين. وقولهُ تعالى: { إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ }؛ أرادَ به غارَ ثَوْرٍ حين خرجَا إليه، والغارُ النُّقْبُ الذي يكونُ في الجبلِ، وقولهُ تعالى: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا }؛ معناهُ: إذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ: لا تحزَنْ على قََتلِي وذهاب الإسلامِ إنَّ اللهَ يحفَظُنا ويدفعُ شرَّ المشركين عنَّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ }؛ أي أنزلَ طُمَأنِينَةً على رسولهِ حتى سَكَنَ واطمأنَّ. ويقالُ: أنزلَ سَكِينَتَهُ على صاحبهِ أبي بكر رضي الله عنه، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لنا سَكَناً، وقولهُ تعالى: { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا }؛ معناهُ: أعانَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وقَوَّاهُ يومَ بدرٍ والأحزاب وحُنين بجنودٍ لم تُعاينُوهَا وهم الملائكةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ }؛ أي وجعلَ كلمةَ الشِّركِ مغلوبةً مذمومة، وجعلَ أهلَها أذِلَّةً أسْفَلِينَ، وقولهُ تعالى: { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا }؛ أي وجعلَ كلمةَ التوحيدِ هي الكلمةُ العالية الممدُوحَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }؛ أي مَنِيعٌ بالنِّقمة ممن عصَاهُ وما حكمَ به من أمرهِ.