التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٢
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
٣
مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٤
-الفاتحة

تأويلات أهل السنة

قولهُ عز وجلَّ: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ }.
احتمل أن يكون جلَّ ثناؤُه حمدَ نفسه؛ ليُعلِم الخلقَ استحقاقَه الحمد بذاته؛ فيَحمَدوهُ.
فإن قيل: كيف يجوز أن يحمدَ نفسه، ومثلهُ في الخلق غير محمود؟!
قيل له: لوجهين:
أحدهما: أَنَّه استحقَّ الحمدَ بذاته، لا بأَحدٍ؛ ليكون في ذلك تعريفُ الخلقِ لما يُزلفُهم لديه بما أَثْنَى على نفسه؛ ليُثْنُوا عليه. وغيرُه إنما يكون ذلك له به - جل وعز - فعليه: توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه؛ إذ نفسُه لا تستوجبه بها، بل بالله تعالى.
والثاني: أَن الله تعالى حقيق بذلك؛ إذ لا عيب يمسُّهُ، ولا آفة تحل به فيدخل نقصان في ذلك. ولا هو خاصّ بشيء. والعبْدُ لا يخلو عن عيوب تمسُّه، وآفات تحل به، ويُمدح بالائتمار، ويذم بتركه. وفي ذلك تمكن النقصان، وحق لمثله الفزع إلى الله، والتضرع إليه، ليتغمدهُ برحمته، ويتجاوز عن صنيعه.
وعلى ذلك معنى التكبير، نحمد به ربنا ولا نحمد غيره؛ إذ ليس للعبد معنى يستقيم معه تكبُّره، إذ هُم جميعاً أَكفاء من طريق المحبَّة، والخلق، وما أَدرك أَحدٌ منهم من فضيلة أو رفعة فبالله أدركه، لا بنفسه؛ فعليه تنزيه الرب، والفزعُ إليه بالشكر، لا بالتكبر على أمثاله. والله عن هذا الوصفِ مُتَعَالٍ.
ويحتمل أن يكون قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } على إضمار الأَمر، أي: قولوا: الحمد لله؛ لأن الحمد يضاف إلى الله، فلا بد من أن يكون له علينا؛ فأَمرَ بالحمد لذلك.
ثم يخرج ذلك على وجهين:
أحدهما: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "الحمد لله: أي الشكر لله بما صنع إلى خلقه".
فيخرج تأويل الآية على هذا؛ لأنه - على هذا الترتيب - على الأَمر بتوجيه الشكر إليه، وذلك بتضمن الأَمر أيضاً بكل الممكن من الطاعة على ما روي عن النبي - عليه السلام -
"أَنَّه صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فقِيلَ لَهُ: أليسَ قَدْ غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفلا أكونُ عَبْداً شَكُوراً"
!. فصيَّر أَنواع الطاعات شكراً له، فمن أَطاع الله - تعالى - فقد شكر له، فيخرج تأْويل الآية على هذا.
والوجه الثاني: أنه يخرج مخرج الثناء على الله - عز وجل - والمدح له، والوصفِ بما يستحقه، والتنزيه عما لا يليق به، من توجيه النعم إليه، وقطع الشركة عنه في الإنعام والإفضال على عباده.
وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أَن الله - عز وجل - يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمين، قال الله تعالى: حَمِدَني عَبْدي" ؛ فجعل الحمدَ هذا الحرف، وصيَّر منه ثناءً؛ لوجهين:
أحدهما: أنه نسب الربوبية إليه في جميع العالم، وقطعها عن غيره.
والثاني: أَنه سَمَّى ذلك صلاةً، والصلاةُ اسْم للثناءِ والدعاءِ، وذلك خلاف الذم ونقيضه.
وفي الوصف بالبراءَة من الذم مدحٌ، وثناءٌ بغاية المدح والثناءِ؛ ولذلك يفرق القول بين الحمد والشكر؛ إذ أُمِرْنا بالشكر للناس بما جاءَ عن رسول الله - عليه السلام -:
"إنَّ من لم يَشكُرِ النَّاس لم يشكرِ الله" صيره بمعنى المجازاة، والحمدُ بمعنى الوصف بما هو أَهله؛ فلم يُسْتَحَب الحمد إلا لله. وبالله التوفيق.
وقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "سيد العالَمين". والعالم: كل من دَبَّ على وجه الأرض.
وقد يتوجه: الربُّ" إلى الرُّبُوبية لا إلى السؤدد؛ إذ يستقيم القول برب كل شيء من بني آدم و غيره، نحو رب السماوات والأرضين، ورب العرش ونحوه، وغير مستقيم القول بسيد السماوات ونحوه.
وقد يتوجه اسم الرب إلى المالك؛ إذ كل من يُنْسب إليه الملك يُسمَّى أنه مالكه. ولا يُسمَّى أنه سيد إلا في بني آدم خاصةً.
واسم الرب يجمع ذلك كلَّه؛ لذلك كان التوجيه إلى المالك أقرب، وإن احتمل المروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - إذا هو في الحقيقة سيِّدُ من ذُكِر ورَبُّهم. والله الموفق.
ثم اختلَف أَهلُ التفسير في العَالَمِين:
فمنهم من رد إلى كل ذي روح دب على وجه الأرض.
ومنهم من رد إلى كل ذي روح في الأَرض وغيرها.
ومنهم من قال: لله كذا، كذا عالم.
والتأْويل عندنا ما أجمع عليه أَهل الكلام: أن العالَمين: اسم لجميع الأَنام والخلق جميعاً. وقول أَهلِ التفسير يرجع إلى مثله، إلا أَنهم ذكروا أَسماءَ الأَعلام، وأَهل الكلام ما يجمع ذلك وغيرَهم.
ثم العالَم اسم للجميع، وكذلك الخلق، ثم تعريف ذلك بالعالَمين والخلائق يتوجه إلى جمع الجمع، من غير أن يكون في التحقيق تفاوتٌ، وقد يتوجه إلى عالم كل زمان وكذا خلقِ كل زمان على حكم تجدد العالم. وبالله التوفيق.
وفي ذلك أن الله - عز وجل - ادعى لنفسه: رب العالمين كلهم، من تقدم وتأَخر، ومن كان ويكون، لم يَقْدر أَحد أَن ينطق بالتكذيب، يدَّعى شيئاً من ذلك لنفسه؛ فدل ذلك على أن لا رب غيره، ولا خالق لشيء من ذلك سواه؛ إذ لا يجوز أَن يكون حكيم أَو إليه ينشىء ويبدع ولا يدعيه، ولا يفصل ما كان منه ما كان لغيره، وبنفسه قام ذلك لا بغيره؛ وعلى ذلك معنى قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [المؤمنون: 91] فهذا - مع ما في اتِّساق التدبير، واجتماع التضاد، وتعلق حوائج بعضٍ ببعض، وقيام منافع بعضٍ ببعض، على تباعد بعضٍ من بعض وتضادها - دليلٌ واضح على أن مدبر ذلك كله واحد، وأَنه لا يجوز كون مثل ذلك من غير مُدبِّر عليم. والله المستعان.
وقوله: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.
اسمان مأْخوذان من الرحمة، لكنه رُوِي فيهما: رقيقان أَحُدهما أَرقُّ من الآخر، وكأن الذي رُوِي عنه هذا أَراد به لطيفان أَحُدُهما أَلطف من الآخر، دليل ذلك وجهان:
أَحدهما: مجيء الأَثر في ذلك - اللطيف - في أسماء الله تعالى مع ما نطق به الكتاب، ولم يذكر في شيء من ذلك رقيق.
ومعنى اللطيف: استخراج الأُمور الخفية وظهورها له؛ كقوله:
{ { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } إلى قوله: { لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان: 16]، وبالله التوفيق.
والثاني: أن اللطيفَ حرف يدل على البرِّ والعطفِ.
والرقة على رقة الشيء التي هي نقيض الغلظ والكثافة كما يقال: فلان رقيق القلب.
وإذا قيل: فلان لطيف، فإنما يراد به بارٌّ: عاطف؛ فلذلك يجوز: لطيف، ولا يجوز: رقيق، وكذلك فسر من فسر "الرحمن" بالعاطف على خلْقه بالرزق.
وذهب بعضهم - وهو الأول - إلى اللطافة وذلك بعيد، وإنما هو من اللُّطف.
وقوله: أَحدُهما أَرق من الآخر، بمعنى اللطف - يحتمل وجهين:
أحدهما: التحقيق بأَن اللطف بأَحد الحرفين أَخص وأَليق، وأَوفر وأَكمل، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال: رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه؛ ولذا ذكر أُمته وإن أشركهُم في الرزِق فيما يراهم غيرهم؛ ألا ترى أنه لا يقال: رحمن بالمؤمنين، وجائز القول: رحيم بهم، وكذلك لا يقال: رحيم بالكافرين، مطلقاً؟! وبالله التوفيق.
ووجه آخر: أَن أحدهما أَلطف من الآخر؛ كأنه وصف الغاية في اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما في كل واحد منهما من اللطف، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف. وبالله التوفيق.
ثم في هذا أن اسم "الرحمن" هو المخصوص به الله لا يسمى به غيره، و"الرحيم" يجوز تسمية غيره به؛ فلذلك يوصف أن "الرحمن" اسم ذاتي، و"الرحيم" فِعْلى، وإن احتمل أن يكونا مشتقين من الرحمة؛ ودليل ذلك: إنكار العرب "الرحمن"، ولا أحد منهم أنكر "الرحيم"، حيث قالوا:
{ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } [الفرقان: 60] وذلك قوله: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [الإسراء: 110] يَدُل على أنَّه ذاتيٌّ لا فعلىٌّ، وإن كان الفعل صفة الذات؛ إذ محالٌ صفته بغيره؛ لما يوجب ذلك الحاجة إلى غيره ليحدث له الثناءَ والمدح. وفي ذلك خَلَق الخلق لنفع الامتداح، وهو عن ذلك متعالٍ، بل بنفسه مستحقٌّ لكل حمدٍ ومدح، ولا قوة إلا بالله.
وروي في خبر القسمة: "أَن العبد إذا قال: الرحمن الرَّحيم، قال الله تعالى: أَثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي". وذكر أنه قال في الأول: بالتمجيد، وفي الثاني: بالثناء، وذلك واحد؛ لأن معنى الثناء الوصف بالمجد والكرم والجود، والتمجيد هو الوصف بذلك، وبالله التوفيق.
ثم أُجمع على أن قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } أنه يوم الحسابِ والجزاءِ. وعلى ذلك القول:
{ أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات: 53]، وقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } [النور: 25] وهو الجزاء.
ومن ذلك قول الناس: "كما تدين تدان".
وجائز أن يكون { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } على جعل ذلك اليوم لما يدان اليوم؛ إذ به يظهر حقيقتُه، وعِظمُ مرتبته، وجليلُ موقعه عند ربه.
وفي الآية دلالة وصف الرب بملكِ ما ليس بموجود لوقت الوصفِ بملكه، وهو يوم القيامة.
ثبت أن الله بجميع ما يستحق الوصف به يستحقه بنفسه لا بغيره.
ولذلك قلنا نحن: هو خالق لم يزل، ورحيم لم يزل، وجواد لم يزل، وسميع لم يزل - وإن كان ما عليه وقع ذلك لم يكن - وكذلك نقول: هو رب كل شيء، وإله كل شيء في الأزل - وإن كانت الأَشياء حادثة - كما قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } وإن كان اليومُ بعدُ غير حادثٍ. وبالله التوفيق.