التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ
١
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
٢
-يونس

تأويلات أهل السنة

قوله تعالى: { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ }: قد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعات في صدر الكتاب.
وقوله: { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ }: قال بعضهم: الحكيم هو الله، كأنه قال: ذلك الكتاب آيات الله.
وقال بعضهم: الحكيم هو صفة القرآن.
والكتاب يحتمل وجهين:
يحتمل أنه سماه حكيماً فعيلا بمعنى أنه محكم، وجائز تسمية المفعول باسم الفعيل؛ نحو: قتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح ونحو ذلك، فيه الحلال والحرام، والأمر والنهي، أو محكم متقن مبرأ من الباطل والكذب والاختلاف، وهو ما وصفه تعالى:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ... } الآية [فصلت: 42].
والثاني: حكيماً لما أن من تأمل فيه ونظر وفهم ما أودع فيه وأدرج، صار حكيماً وهو ما وصفه وسماه مجيداً، أي: من تأمله ونظر فيه صار مجيداً شريفاً.
والحكيم هو المصيب في الحقيقة إن كان صفة القرآن أو صفة الله، فإن كان صفة لله، فهو حكيم واضع كل شيء موضعه، وإن كان صفة للقرآن فهو كذلك أيضاً واضع كل شيء موضعه.
وقوله: { آيَاتُ }: يحتمل آيات الكتاب المعروف، ويحتمل الحجج والبراهين، أي: حجج الكتاب وبراهينه أو أعلامه، وقد تقدم ذكر الآيات في غير موضع، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } يحتمل وجهين:
يحتمل [أي قد عجبوا] أن أوحينا إلى رجل منهم.
ويحتمل: أيعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم على الاستئناف، كانوا يعجبون من ثلاث: من إنزال القرآن على رجل منهم يعجز الخلائق عن إتيان مثله، ويعجبون من الوحي إلى رجل منهم وإرساله رسولا من بين الكل أو من البشر؛ كقوله:
{ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94]؛ وكقوله: { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا... } [ص: 8]، وكانوا يعجبون من البعث؛ كقولهم: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً... } الآية [ق: 3].
ثم يحتمل قوله: { إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } أي: من البشر، أي: لا تعجبوا أن أوحينا إلى رجل من البشر؛ فإن الإيحاء إلى من هو من البشر أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة؛ لأن البشر يعرفون خروج ما هو خارج عن طوق البشر ووسعهم، ولا يعرفون ذلك من غير جوهرهم وغير جنسهم، ويألف كل جنس بجنسه وكل جوهر بجوهره، ولا يألف غير جوهره ولا غير جنسه، فإذا كان ما وصفنا كان بعث الرسول من جنس المبعوث إليهم وجوهرهم أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة.
ويحتمل قوله: { أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } أي: من الأميين، أي: لا يعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم، أي: أمي فإن ذلك أبلغ في التعريف والحجاج؛ لأنه بعث أميّاً لم يعرفوه بدراسة الكتب المتقدمة أو تلاوة شيء منها، ولا عرفوه اختلف إلى أحد منهم في تعليم كتبهم، ولا عرف أنه كتب شيئاً ولا خط خطا قط، ثم أخبر عما في كتبهم على موافقة ما فيها، وكانت كتبهم بغير لسانه؛ دل أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى؛ فذلك أبلغ في إثبات الرسالة والحجاج، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ }: قال بعضهم: الإنذار يكون في كل مكروه مرهوب، والبشارة في كل محبوب مرغوب.
وقال بعضهم: { أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } يعني: الكفار بالنار.
{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } ثم اختلفوا في قوله: { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ }: قال بعضهم: إن لهم الجنة عند ربهم.
وقيل: إن لهم الأعمال الصالحة يقدمون عليها.
وقيل: قدم صدق: محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم عند ربهم.
[وقيل: إن لهم الجنة عند ربهم].
وقيل: إن لهم [ثواب أعمالهم] الصالحة التي قدموها بين أيديهم { قَدَمَ صِدْقٍ }، أي: سلف خير أو سلف وعْد وعِد لهم بذلك وكأن أصله من القدم.
قال أبو عوسجة: يقال في الكلام: لفلان عندي قدم صدق ويد صدق، أي: نعمة قد أسلفها إليّ.
وقال القتبي: قدم صدق: يعني عملا صالحاً قدموه.
وعن ابن عباس: رضي الله عنه - قال: سبق لهم السعادة في الذكر الأول.
من قال: قدم صدق هو الشفاعة، فالقدم كناية عن الشفاعة والصدق، أي واقعة.
ومن قال: وعدوا ثواب أعمالهم أي تقدم لهم وعد حق وصدق.
ويحتمل { قَدَمَ صِدْقٍ } أي: ثبتت قدمهم لا تزل، على ما وصف من ثبوت قدم المؤمنين والقرار فيه، وتزل قدم الكافرين؛ كقوله:
{ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } [النحل: 94].
وقوله - عز وجل -: { قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }: ومن قرأ (لسِحْرٌ) عنى هذا القرآن.
ومن قرأ (لَسَاحِرٌ) بالألف عنى به النبي.
ثم السحر هو الذي يتراءى في الظاهر أنه حق وهو في الحقيقة باطل لا شيء، ثم هو يأخذ الأبصار ويأخذ العقول.
فأما الذي يأخذ الأبصار فهو ما يتراءى الشيء على غير ما هو في الحقيقة، والذي يأخذ العقول هو أن يذهب بعقله فيصير مجنوناً.
وقال فرعون لموسى:
{ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } [الإسراء: 101] أي: مجنوناً، لكن هؤلاء لم يريدوا بقولهم: (لسِحْر مبِين): السحر الذي يأخذ العقول، ولكن أرادوا السحر الذي يأخذ الأبصار؛ يقولون: إنه وإن كان أخذ الأبصار في الظاهر فهو لا شيء في الحقيقة، ولكن في قولهم: { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } دليل أنهم عجزوا عن رده، وعرفوا أنه حق، ولكن هم أرادوا التمويه على الناس؛ كقول فرعون لسحرته حين آمنوا برب موسى: { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } [طه: 71] أراد أن يموه على الناس؛ والله أعلم.