التفاسير

< >
عرض

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٨
وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٩
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ
٢٠
-يونس

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } يحتمل وجهين:
ما لا يضرهم لو تركوا عبادته ولا ينفعهم إن عبدوه.
والثاني: { مَا لاَ يَضُرُّهُمْ } أي: ما لا يملكون الضرر بهم، { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي: ولا يملكون جر النفع إليهم بسفههم في عبادتهم من لا يملك بهم دفع الضرر، ولا يملك جر النفع، وتركهم عبادة من به يكون جميع منافعهم وعذابهم، ومنه يكون كل خوف وضرّ، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ }: يحتمل هذا القول منهم تقليدا لآبائهم؛ كقولهم:
{ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [الأعراف: 28] ظنوا أن آباءهم لما تركوا وما هم عليه لم يعذبوا - أنهم على الحق، وأن الله قد رضي بذلك، أو قالوا ذلك لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة الله والقيام بخدمته، وقد يكون مثل هذا في ملوك الأرض أن كل أحد لا يرى نفسه يصلح لخدمة الملك، فيخدم من دونه المتصلين به رجاء أن يكون من خدمه شفيعا له عند الملك؛ فعلى ذلك هؤلاء طمعوا أن عبادتهم هؤلاء تقربهم إلى الله زلفى، ويكونون لهم شفعاء عند الله، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } يقول: أتنبئون الله [أي أتخبرون الله] بما لا يعلم، أي: تعلمون أنه عالم، أي: أتعلمون من تَعْلَمون أنه يعلم ما ذكر وأنتم لا تعلمون ذلك، وقد تعلمون أنه لو كان كذلك لكان هو أعلم به منكم.
والثاني: أن تقولوا ما لا يعلم، أي: يعلم أنه ليس كما تقولون كقول الناس: ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، أي: ما شاء ألا يكون لا يكون.
وقوله: { سُبْحَانَكَ }: كلمة جعلت لإجلال الله عما يحتمله غيره من الأشكال والأضداد، ومن العيوب والآفات، وهو في هذا الموضع يتوجه إلى وجهين إذ كانوا يعبدون ما ذكر ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله، فيقول: سبحانه أن يجعل لأمثال أولئك شفاعة عنده؛ إذ الشفيع يكون من له منزلة وقدر عند من يشفع له، والمنزلة تكون [للعبيد بما يتعبدهم]، فيقومون بتوفير ما يحتمل وسعهم من العبادة، فأما من لا يحتمل التعبد فهو بعيد عما ذكر يعني سبحانه أن يجعل الشفاعة لمن ذكر دون الأنبياء والرسل، وهم قد أخبروا أنها لا تملك ضرا ولا نفعاً، وفي الشفاعة ذلك.
والثاني: أن يكون عما أشركوا في العبادة، فسبحانه عن أن يكون معه معبود أو يأذن لأحد بعبادة غيره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ } اختلف فيه:
قال بعضهم: قوله: { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي: أهل مكة كانوا كلهم أهل شرك عبّاد الأصنام والأوثان، لم يكن فيهم اليهودية ولا النصرانية ولا شيء من اختلاف المذاهب، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا: فمنهم من آمن به وصدقه وأخلص دينه لله، ومنهم من عاند وكابر في تكذيبه بعد أن عرف أنه رسول الله ومنهم من شك فيه، ومنهم من لم ينظر في أمره قط ولا تفكر فيه؛ فصاروا أربع فرق.
وقال بعضهم: قوله: { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً }، بالفطرة، أي: كانوا جميعاً على الفطرة، وفي فطرة كل [أحد] الشهادة على وحدانية الله تعالى وألوهيته؛ كقوله:
{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [آل عمران: 83]، وقوله: { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم: 30] في خلقة كل أحد الشهادة لله بالوحدانية له والألوهية فاختلفوا: فمنهم من كان على تلك الفطرة، ومنهم من كذب واختار الكفر، وهو ما روي: "كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه" .
أخبر أنهم على الفطرة لو تركوا على ذلك، لكن أبويه يمنعانه عن الكون عليها.
وقيل: { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي: كان الخلائق جملة أمم؛ كقوله:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأنعام: 38] كأنه يعاتب هذه الأمة يقول: إن الأمم مع اختلاف جواهرها وأجناسها كانوا خاضعين لله مخلصين له، فأنتم أيها الناس أمة من تلك الأمم، فكيف اختلفتم وأشركتم غيره في ألوهيته وربوبيته، مع ما ركب فيكم من العقول والتمييز بين ما هو حكمة وما هو سفه، وقد فضلكم على غيرها من الأمم في خلق ما خلق في السماوات وما في الأرض لكم، وسخر لكم ذلك كله ما لم يفعل ذلك بغيرنا من الأمم؟!
ومنهم من قال من أهل التأويل في قوله: { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً }: زمن نوح: نوح ومن دخل معه في السفينة كانوا على دين واحد، فاختلفوا بعدما خرجوا.
ومنهم من قال: آدم فاختلف أولاده.
ومنهم من قال: زمن إبراهيم. لكنا لا نشهد كيف كان الأمر، فلا نعلم إلا بخبر عن الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } قيل: لولا أن من حكمه ألا يعذب هذه الأمة عند تكذيبهم الآيات إذا سألوها وإلا لأهلكها كما أهلك الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال، ولكن أخر تعذيب هذه الأمة إلى يوم القيامة.
والثاني: سبقت من ربك ألا يستأصل هذه الأمة عند تكذيبهم الرسل والعناد لهم أحد التأويلين في ترك استئصالهم، والآخر في تأخير العذاب عنهم إلى وقت.
وقوله: { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ببيان يضطرهم إلى القبول.
وقوله - عز وجل -: { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ }: جوابه - والله أعلم - ما ذكر: لولا كلمة سبقت من ربك ألا يعذب هذه الأمة بتكذيبهم الآيات عند سؤالها، وإلا لعذبتم أنتم كما عذبت الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال.
وقوله - عز وجل -: { فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ }: أي: إنكم تعلمون أن علم الغيب لله، وقد أنزل من الآيات ما يبين ويدل على رسالتي.
وقوله: { فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ } قيل: انتظروا هلاكي إني منتظر هلاككم؛ لأنهم كانوا يوعدونه الهلاك.
وقيل: انتظروا مواعيد الشيطان إني منتظر مواعيد الله، وهو حرف وعيد، والله أعلم.