التفاسير

< >
عرض

أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٥
هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٥٦
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ
٥٧
قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٥٨
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ
٥٩
وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
٦٠
-يونس

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي: إن ما في السماوات والأرض كلهم عبيده [وإماؤه وملكه]، لا لمن [تعبدون دونه] من الأصنام والأوثان، فمن عند من يملك الدنيا والآخرة اطلبوا ذلك منه؛ لا من عند من لا يملك يبين سفههم في طلبهم الدنيا من عند من يعلمون أنه لا يملك ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }: في كل وعد ووعيد أنه كائن لا محالة عذابا أو رحمة.
{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي: لا ينتفعون بعلمهم، فنفى عنهم العلم وإن علموا؛ لما لم ينتفعوا به.
ويحتمل قوله: { لاَ يَعْلَمُونَ } أي: لم يكتسبوا سبب العلم، [وهو التأويل والنظر في آياته وحججه.
ويحتمل نفي العلم عنهم لما أعطوا أسباب العلم] فلم يعلموا، فإن كان على هذا فيكونون معذورين، وإن كان على الوجهين الأولين فلا عذر لهم في ذلك.
وفي قوله: { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } دلالة إثبات البعث من وجهين:
أحدهما: فيما يذكر من قدرته من خلق السماوات والأرض وما بينهما [بغلظهما وكثافتهما وشدتهما وعظم خلقتهما]، وأن تلك القدرة خارجة عن وسع البشر وتوهمهم، فمن قدر على ذلك فهو قادر على إحياء الخلق بعد فنائهم.
والثاني: يخبر عن حكمته من تعليق منافع الأرض بالسماء على بعد ما بينهما، والإفضال على الخلق بأنواع النعم التي تكبر الإحصاء، وأن كل شيء منها قد وضع مواضعها، فلا يحتمل من هذا وصفه في الحكمة يخلق شيئاً عبثاً باطلا ولو كانوا للفناء لا حياة بعده كان يكون خارجاً عن الحكمة، فظهر أنه خلقهم لأمر أراد بهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي: تعلمون أنه هو أحيا الأحياء، وهو الأموات أيضاً وهو كقوله:
{ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 28]، فإذا عرفتم أنه هو يحيي الأحياء وهو يميت الأموات لا غير، فاعلموا أنه هو يبعثكم وإليه ترجعون؛ ألزمهم الحجة أولاً بالكائن، ثم أخبرهم عما يكون بالحجة التي ذكر.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ }: وهو هذا القرآن قال بعضهم: الموعظة: النهي كقوله:
{ يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } [النور: 17] قيل: ينهاكم أن تعودوا لمثله أبدا. وقال آخرون: الموعظة هي التي تدعوا إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب وقال بعضهم [العظة] هي [التي] تلين كل قلب قاس وتجلي كل قلب مظلم وفي القرآن جميع ما ذكرنا فيه النهي، وفيه الدعاء إلى كل مرغوب، والزجر عن كل مرهوب، وهو يلين القلوب القاسية ويجلي القلوب المظلمة إذا تأملوا فيه، ونظروا، وتفكروا تفكر المستشهد وطالب الحق.
وقيل: الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية وتدمع العيون اليابسة، وتجلي الصدور المظلمة.
وقوله - عز وجل -: { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ }: إن للدين آفات وداء تضر به وتتلفه كما لهذه الأبدان آفات وأمراض تعمل في إتلافها وإهلاكها، ثم جعلت لآفات الأبدان وأمراضها أدوية يشفى بها الأبدان [المؤرقة] المريضة؛ فعلى ذلك جعل هذا القرآن شفاء لهذا الدين ودواء يداوى به، فيذهب بآفات الدين وأمراضه؛ كما تعمل الأدوية في دفع آفات الأبدان وأمراضها؛ لذلك سماه موعظة وشفاء لما في الصدور، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } قيل: هدى من الضلالة، ورحمة من عذابه. أو يقول: { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } هدى أي: يدعوا إلى كل خير ويهدي [إليه]، ورحمة: لمن اتبعه، هو هدى ورحمة لمن اتبعه وتمسك به، وعمى وضلال لمن خالفه وترك اتباعه وهو ما ذكر
{ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت: 44]، وقال: { فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [التوبة: 124] أي: زاد للمؤمنين إيماناً إلى إيمانهم، و { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً } [التوبة: 125] أي: زاد للكافرين رجساً إلى رجسهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ }: قال بعضهم: فضل الله ورحمته القرآن.
وقال قائلون: فضل الله القرآن، ورحمته الإيمان، وفيه أنه بإنزال القرآن متفضل إذ له ألا ينزل، وفيه أن أهل الفترة يؤاخذون في حال فترتهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي: فرحكم بما ذكر [هو] خير مما تجمعون من الدنيا.
وقال بعضهم: قوله: { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ }: إنما خاطب المؤمنين بقول: قل للمؤمنين بفضل الله: الإسلام، وبرحمته: يعني القرآن فبذلك يعني فبهذا الفضل والرحمة فليفرحوا يعني المؤمنين، هو خير مما يجمعون يعني مما يجمع الكفار من الأموال من الذهب والفضة وغيره.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ }.
[يحتمل { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ }] أضاف إنزاله إلى السماء، وإن كانت الأرزاق إنما تخرج من الأرض لما كانت أسبابها متعلقة بالسماء، يكون نضج الأنزال وينع الأعناب وإصلاح الأشياء كلها أعني أسباب الأرزاق من نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات وبه يخرج جميع أنواع الخارج مما يكون فيه غذاء البشر والدواب، ومن نحو الشمس التي [ينضج بها] الأنزال وبها تينع الأعناب وجميع الفواكه ونحوه أضاف ذلك إلى السماء لما ذكرنا.
وكذلك قوله:
{ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات: 22] أي: أسباب ذلك في السماء؛ لا أن عين ذلك في السماء.
ويحتمل قوله: { قُمَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ } أي: ما خلق الله لكم؛ وكذلك جميع ما يضاف إلى الله إنما يضاف إليه بحق الخلق أي خلقه منزلا؛ كقوله:
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] ونحو ذلك، أي: خلق لكم مما ذكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً }: قال بعضهم: ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة وما ذكر في سورة الأنعام والمائدة.
وقال بعضهم: ما حرموا الآلهة التي كانوا عبدوها، أي: جعلوها للأصنام وهو ما ذكر في الأنعام، وهو قوله:
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً... } الآية [الأنعام: 136] نحو ما ذكرنا في الآية، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } أي: آلله أذن لكم في تحريم ما حرمتم وتحليل ما أحللتم أم على الله تفترون: [بل على الله تفترون] وذلك أن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة وهم لم يكونوا مؤمنين بالرسل والكتب، وإنما يوصل إلى معرفة [المحرم والمحلل] بالرسل والكتب والخبر عن الله، وهم لم يكونوا مؤمنين بواحد مما ذكرنا، فكيف جعلتم منه حراماً وحلالا وأنتم لا تؤمنون بما به يعرف الحلال من الحرام، فكيف حرمتم ما أحل لكم أو أحللتم ما حرم عليكم؟! يخبر عن سفههم وعنادهم وافترائهم على الله، فإذا اجترءوا أن يفتروا على الله فعلى غيره أجرأ، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }: فإن قيل كيف أوعدوا بيوم القيامة وهم كانوا لا يؤمنون بالبعث؟! قيل: قد ألزمهم الحجة بكون البعث بما أظهر من كذبهم وافترائهم على الله في التحريم والتحليل، فذلك يظهر كذبهم بتكذيبهم البعث.
وبعد فإنه قد يوعد المرء بما لا يتيقن به ويتخوف عليه ويحذر وإن لم يحط علمه به، فكذلك هذا.
وبعد فإنه قد جعل في عقولهم ما يلزمهم الإيمان بالبعث والجزاء للأعمال؛ إذ ليس من الحكمة خلق الخلق للفناء خاصة.
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يقول: وما ظن الذين يفترون على الله الكذب لو خرج الأمر حقّاً، وكان صدقاً على ما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله من البعث والجزاء لما اكتسبوا؟!
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ }: هو ذو فضل على جميع الناس من [جهة ما ساق] إلى الكل من الرزق كافرهم ومؤمنهم وأنواع النعم، وما أخر عنهم العذاب إلى وقت، أو لما بعث إليهم الرسل والكتب من غير أن كان منهم إلى الله سابقة صنع يستوجبون به ذلك ومنه خصوص فضل على المؤمنين ليس ذلك على الكافرين، ولكن أكثرهم لا يشكرون لفضله وما أنعم عليهم.