التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ
٧١
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٧٢
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ
٧٣
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ
٧٤
-يونس

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } أي: خبره وحديثه، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ }.
قال بعضهم: إن كان كبر عليكم طول مقامي ومكثي فيكم ودعائي إياكم إلى عبادة الله، والطاعة له، وتذكيري إياكم بآياته. قال بعضهم: وتذكيري بعذابه بترككم إجابتي ودعائي.
ويحتمل قوله: { إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي } بما ادعى من الرسالة، { وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي بحجج الله على ما ادعيت من الرسالة.
وفي قوله: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } وجوه:
أحدها: اتل منابذة نوح قومه وما أرادوا به من الكيد والمكر به.
والثاني: اذكر عواقب قوم نوح، وما حل بهم من سوء معاملتهم رسولهم.
والثالث: اذكر لهولاء عواقب متبعي قومه ومخالفيه.
وقوله - عز وجل -: { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } قال بعضهم: أي اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ثم كيدوني ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، أي: اجعلوا ما تسرون من الكيد والمكر بي ظاهراً غير ملتبس ولا مشبه.
وقال بعضهم: قوله: { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ } أي: أعدوا أمركم وادعوا شركاءكم؛ وكذلك روي في حرف أبي: (فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم).
{ ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } أي: اقضوا ما أنتم قاضون.
وقال بعضهم: قوله: { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي: لا يكبر عليكم أمركم.
وقال الكسائي: هو من التغطية واللبس، أي: لا تغطوه ولا تلبسوه، اجعلوا كلمتكم ظاهرة واحدة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "لا يكن أمركم اغتماما عليكم"، أي: فرجوا عن أنفسكم؛ كقوله:
{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ... } الآية [الحج: 15].
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } أي: اعملوا بي ما تريدون ولا تنظرون؛ وهو كقوله:
{ فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [طه: 72].
وقال الكسائي: هو من الإنهاء والإبلاغ؛ وهو كقوله:
{ وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ... } الآية [الإسراء: 4] { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ } [الحجر: 66]، أي: أنهينا إليه وأبلغنا إليه.
وقال أبو عوسجة: إن شئت جعلتها ظلمة فلا يبصرون أمرهم يعني غمّة، وإن شئت جعلتها شكا واشتقاق الغمة، من غم يغم غما أي غطى يغطي، تقول: غممت رأسه أي غطيته، { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ } أي: افعلوا بي ما أردتم وفي قول نوح لقومه: { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ... } إلى قوله: { وَلاَ تُنظِرُونَ }، وقول هود:
{ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [هود: 55]، وقول رسول الله: { قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [الأعراف: 195] دلالة إثبات رسالتهم؛ لأنهم قالوا ذلك لقومهم وهم بين أظهرهم، ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك اعتماداً على الله واتكالا بمعونته ونصرته إياهم.
وقال بعضهم في قوله: { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ } أي: فافرغوا إلى يقال [قضى] فرغ؛ وهو قول أبي بكر الأصم.
وقال بعضهم: ثم اقضوا إلي أن امضوا إلي كقوله:
{ فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ } [الذاريات: 26] و { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [الصافات: 91] ونحوه.
وقوله - عز وجل -: { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ }: التولي اسم لأمرين: اسم للإعراض والإدبار؛ كقوله:
{ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ } [البقرة: 205]، واسم للإقبال والقبول أيضاً؛ كقوله: { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ... } الآية [المائدة: 56] ونحوه، فهاهنا يحتمل الأمرين جميعاً، أي: فإن توليتم أي أقبلتم وقبلتم ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه، { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ } أي: ما أجري إلا على الله. وإن كان في الإعراض فكأنه يقول: كيف أعرضتم عن قبوله، ولم أسألكم على ذلك أجراً فيكون لكم عذر في الإعراض والرد؟! كقوله: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } الآية [الطور: 40]، أي: لم أسألكم على ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه غرما حتى يثقل عليكم ذلك الغرم، فيمنعكم ثقل الغرم عن الإجابة، ففي هذه الآية وغيرها دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم؛ لأنه لو جاز أخذ الأجر على ذلك لكان لهم عذر ألا يبذلوا ذلك ولا يتعلموا شيئاً من ذلك، وفي ذلك هدم شرائع الله وإسقاطها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي: مسلماً نفسي إلى الله، أي: سالماً، لا أجعل لأحد سواه فيها حقا ولا حظا، أو أمرت أن أكون من المخلصين [لله] والخاضعين له؛ هو يحتمل ذلك كله.
وقوله - عز وجل -: { فَكَذَّبُوهُ } يعني: نوحاً كذبه قومه فيما ادعى من الرسالة، أو ما آتاهم من الآيات، أو ما أوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه.
{ فَنَجَّيْنَاهُ } يعني نوحاً، { وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ } أي: من ركب معه الفلك من المؤمنين.
{ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } يحتمل خلائف خلفاء في الأرض وسكاناً يخلف بعضهم بعضا، ويحتمل جعلناهم خلائف أي خلف قوم أهلكوا واستؤصلوا بالتكذيب.
{ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }: يحتمل الآيات الحجج والبراهين التي أقامها على ما ادعى من الرسالة.
ويحتمل قوله: { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } العذاب الذي أوعدهم بتكذيبهم إياه فيما وعد.
وقوله - عز وجل -: { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ }: كان أنذر الفريقين جميعاً المؤمن والكافر جميعاً؛ كقوله:
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [يس: 11] فإذا كان ما ذكرنا فيكون تأويله: فانظر كيف كان عاقبة من أجاب ومن لم يجب: عاقبة من أجاب الثواب، وعاقبة من لم يجب العذاب.
ويحتمل المنذرين الذين لم يقبلوا الإنذار ولم يجيبوا، أي: انظر كيف كان عاقبتهم بالهلاك والاستئصال، ويكون تأويل قوله:
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [يس: 11] أي: إنما يقبل الإنذار من اتبع الذكر، أو إنما ينتفع بالإنذار من اتبع الذكر، أو أما من لم يتبع الذكر لم ينتفع، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً } أي: من بعد نوح رسلا إلى قومهم، أي: بعثنا إلى كل قوم رسولا، لا أنه بعث الرسل جملة إلى قومهم، ولكن واحداً على أثر واحد.
{ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَٰتِ }: يحتمل البينات الحجج والبراهين التي أقاموها على ما ادعوا من الرسالة والنبوة.
ويحتمل البينات بيان ما عليهم أن يأتوا ويتقوا.
ويحتمل البينات بما أخبروهم وأنبئوا قومهم بالعذاب أنه نازل بهم في الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } قال بعضهم: ما كان كفار مكة ليؤمنوا وليصدقوا بالآيات والبيانات كما لم يصدق به أوائلهم.
وقال بعضهم: قوله: { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي: قبل بعث الرسل، ففيه دلالة أن أهل الفترة يؤاخذون بالتكذيب في حال الفترة.
ويحتمل قوله: { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي: من قبل إتيان البينات، أي: ما كانوا ليؤمنوا بعدما جاءوا بالبينات بما كذبوا به من قبل مجيء البينات.
{ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ } أي: هكذا نطبع على قلوب أهل مكة كما طبعنا على قلوب أوائلهم؛ إذ علم أنهم لا يقبلون الآيات ولا يؤمنون بها، والاعتداء هو الظلم مع العناد والمجاوزة عن الحد الذي جعل.
وقوله - عز وجل -:{ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } هو يخرج على وجهين؛ أحدهما: ما كانوا ليؤمنوا بالبينات إذا جاءتهم البينات على السؤال، وهكذا عادتهم أنهم لا يؤمنون بالآيات إذا أتتهم على السؤال.
والثاني: ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا على علم منهم أنها آيات وأنه رسول؛ والله أعلم.