التفاسير

< >
عرض

وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
١
فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً
٢
فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً
٣
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً
٤
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً
٥
إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
٦
وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ
٧
وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
٨
أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ
٩
وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ
١٠
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
١١
-العاديات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } إلى آخره.
قال على - كرم الله وجهه - وعبد الله - رضي الله عنهما -: هي الإبل.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره من أهل التأويل: هي الخيل؛ غير أن عليا - رضي الله عنه - قال: ذلك يوم بدر.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ذلك في الحج.
ومن قال: هي الخيل، قال: ذلك في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبطأ عليه خبرها؛ فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل - عليه السلام - بخبرها على ما ذكر ووصف؛ فسر بذلك المؤمنون.
فإن كان في أمر السرية والخيل على ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - فجهة القسم بذلك تحتمل وجوها:
أحدها: أنه من علم الغيب؛ إذ لا يعلم بحالهم وما وصف من أمر الخيل لا يكون إلا بالوحي من السماء، أو لمن شهد ذلك، فإذا لم يحضرهم أحد ممن شهدها، ثم أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ظهر عندهم على ما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، علموا بذلك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه إنما عرف بالوحي من الله تعالى إليه، وذلك من أعظم آيات الرسالة.
أو أن يكون القسم بما ذكر من شدة الخيل وقوتها وحدة بصرها؛ حيث عدت في ليل مظلم، لا قمر فيه، ولا نور - عدوا يخرج النار من شدة عدوها من الحجارة التي تضرب بحوارفها ما لا يقدر الإنسان العدو في مكان مستو، فضلا أن يقدر على ذلك من الصعود والهبوط، وما ذكر من إثارة النقع من شدة عدوها، وتوسطها في العدو.
أو يذكر موافقة مرادهم وحصول عرضهم في الإغارة على عدوهم في أغفل ما يكون العدو، وهو وقت الصبح.
ثم القسم بقوله: { وَٱلْعَادِيَاتِ }، وما ذكر من الموريات وغيره، هو صفة العاديات ونعوتها.
وفيه بشارات ثلاثة:
أحدها: أنه لم تحجدث لهم حادثة.
والثاني: الإغارة على العدو.
والثالث: أنهم قد توسطوا العدو.
ومن قال: هي الإبل، وذلك في أمر الحج، يذكر سرعة سيرها، وشدة عدوها في الليلة المظلمة التي فيها الأودية والهبوط والصعود.
ثم قوله: { فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً } على هذا التأويل، أي: تضرب الحجر بالحجر؛ فتخرج منه النار من شدة سيرها وعدوها، وفي الخيل شدة ضرب الحوافر على ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } على هذا التأويل، يقول بعضهم: نزولهم في تلك المغارات والأودية في وقت الصبح.
والأشبه أن يكون خروجهم من تلك المغارات والأودية في ذلك الوقت؛ لأن ذلك الوقت وقت الخروج منها والدفع، لا وقت المقام.
أو يكون قد استقبلهم العدو هنالك، ومن [أراد بهم] الشر؛ فتكون المغيرات على الإغارة عليهم؛ إن كان ثم عدو.
{ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } على هذا التأويل: الجمع في الحجج، وهو الجمع المعروف.
ومن قال: ذلك في ال خيل، يكون توسطهن في جمع العدو.
ثم الذي وقع به القسم قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ }، أي: الإنسان لنعم ربه لكفور، لا يشكرها، وهو أن الإنسان يذكر مصائبه وما يصيبه من الشدة في عمره أبدا، وينسى جميع ما أنعم الله عليه، وإن لا يفارقه طرفة عين؛ ولذلك قال الحسن: الكنود: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم.
وقيل: الكنود: القتور البخيل الشحيح في الإنفاق، ويجب أن يكون وصف كل إنسان ما ذكر، لكن المؤمن يتكلف شكر نعم الله - تعالى - ويجتهد في ذلك، ويصبر على المصائب، وهو كقوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [المعارج: 19]، وخلق { عَجُولاً } [الإسراء: 11]، هو كل إنسان، ثم استثنى المصلين منهم، وهم المؤمنون؛ أي: كذلك خلق وطبع كل إنسان، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه من ذلك الطبع الذي أنشئ عليه، وطبع إلى غيرها من الطبائع؛ كالبهائم والسباع التي طبعها النفور من الناس بالاستيحاش عنهم، ثم تصير بالرياضة ما تستقر عندهم وتجيبهم عند دعوتهم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ }، قال بعضهم: إن ذلك الإنسان على ما فعله في الدنيا لشهيد في الآخرة على [ما جمعه]؛ أي: يشهد ذلك ويعلمه؛ كقوله:
{ بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [القيامة: 14].
وقال بعضهم: { وَإِنَّهُ }، أي: ذلك الإنسان لبخله وامتناعه عن الإنفاق { لَشَهِيدٌ }، أي: يتولى حفظ ماله وإحصاءه بنفسه، لا يثق بغيره.
وقال بعضهم: { وَإِنَّهُ } يعني: الله تعالى { عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } أي: عالم، يحصيه؛ ويحفظه، كقوله:
{ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا... } [الكهف: 49].
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ }، أي: ذلك الإنسان لشديد الحب للمال، فذكر بخله، وشحه في المال، في ترك الإنفاق والبذل، وعلى ذلك طبع كل إنسان؛ على ما ذكرنا، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه مما طبع بالرياضة، ويجتهد في الإنفاق، والحب هاهنا: حب إيثار، أي: يؤثر لنفسه.
وقوله - عز وجل -: { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ }، يقول - والله أعلم -: فهلا يعلم قدرة ربه وسلطانه وحكمته في إنشائه أنه يستخرج ما في القبور ويحييهم.
أو يكون قوله: { أَفَلاَ يَعْلَمُ }، أي: فيعلم { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ }.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }، أي: إن ربهم يومئذ لخبير بما كان منهم في الدنيا، { وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } يقول: فهلا يعلم - أيضا - أنه يميز ما في الصدور، ويبين ويظهر ما فيها، لا يترك غير مميز، ولا مبين، بل يظهر ويميز، كقوله:
{ يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق: 9].
ثم قوله: { نَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ }، أي: عن علم له بذلك يأذخهم، ويجزيهم بما يجزيهم.
وفي قوله - تعالى -: { وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } دلالة أن حصول الأعمال وخلوصها وما يثاب عليها ويعاقب بالقلوب وبالنيات، لا بنفس الأعمال؛ حيث قال: { وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ }.
قال أهل اللغة وأبو عوسجة: { ضَبْحاً }: الضبح: صوت في الصدر؛ ضبح يضبح ضبحا، فهو ضابح.
{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً }، أي: هيجن الغبار بحوافرهن، والنقع: الغبار، والنقوع: جماعة، { فَوَسَطْنَ } من التوسط، أي: صرن في الوسط، و{ لَكَنُودٌ }: كفور، { وَحُصِّلَ }، أي: اختبر؛ يقال: حصلت: أي: اختبرت.
وقال بعضهم والقتبي: { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً }: الخيل، والضبح: صوت حلوقها إذا عدت.
وقيل: الضبح والضبع واحد في السير؛ يقال: ضبحت الناقة، وضبعت.
{ فَٱلمُورِيَاتِ }، أي: أورت النار بحوافرها، والأرض الكنود: التي لا تنبت شيئا، ويقال: بعثرت، أي: قلبت، فجعل أسفلها أعلاها.
{ وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ }، أي: ميز ما فيها من الخير والشر، والشك، واليقين، والله أعلم.