التفاسير

< >
عرض

أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ
١
حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ
٢
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٤
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ
٥
لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ
٦
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ
٧
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ
٨
-التكاثر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ }، أي: شغلكم التفاخر بالتكاثر، وثم لم يقل: عماذا شغلتم؟ فيجوز أن يكون { أَلْهَاكُمُ }، أي: شغلكم التكاثر عن توحيد الله - تعالى - أو عن التفكر في حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن ذكر البعث.
ثم قوله - تعالى -: { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون الغرض من الخطاب بهذه الآية: آباءهم وسلفهم الذين تقدموا بالإخبار عن قبح صنيعهم واشتغالهم بالسفه؛ فيكون هذا صلة آيات أخر، من نحو قوله - تعالى -:
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23]، وغير ذلك؛ فكأن الله - تعالى - يخبرهم بآبائهم، ونهاهم عن الاقتداء بآبائهم؛ لأنهم تعاطوا أفعالا تخرج عن الحكمة حتى ماتوا، وذلك يقع من جهين:
أحدهما: أن من أنعم عليه نعمة، فجحدها، ولم يؤد شكرها، استوجب المقت والعقوبة؛ يقول: كيف تقتدون بآبائكم، وإنهم كفروا بنعمة الله، وجحدوا بها، بل الواجب عليكم أن تتبعوا النبي الذيج اء بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم.
والثاني: أن يكون فيه علامة ودلالة للبعث: أن آباءهم لما فعلوا ما يستوجب به المقت والعقوبة، وماتوا من غير أن يصيبهم ذلك في دنياهم: أن لهم دار أخرى يعاقبون فيها بما فعلوا.
وإن كان الخطاب إنما انصرف إليهم، ففيه إخبارهم عن سفههم: أنه شغلهم التفاخر بالتكاثر حتى جحدوا آيات رسوله، عليه السلام.
أو أن يكون في إخبار عن سفههم من وجه آخر، وهو أن الافتخار كيف وقع بالأموات، والتفاخر بالأموات غير مستقيم.
أو يكون فيه وجه ثالث: إنما تفاخروا بما لا صنع لهم فيه؛ لأنهم: إنما افتخروا بالأموال والأولاد، وذلك من لطف الله - تعالى - وجميل صنعه؛ فيكون في هذا كله ذكرهم بما فيهم من السفه والخرق.
ثم التعيير بذكر هذه الأسباب إنما واقع - والله أعلم - دون ما هم فيه من الكفر؛ لأن هذه الأسباب مما يتلى به المؤمن في بعض الأحوال؛ فعيرهم الله - تعالى - بذلك؛ ليكون فيه تذكير وموعظة للمؤمنين، ولو خرج ذكر الكفار في هذا، لكان لا يجتنب المؤمن شيئا من هذا الأفعال.
وقد روي
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ }، فقال: يقول ابن آدم: مالي، [مالي]، ومالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت..." الخبر؛ فهذا يدل على أن الوعيد على الإطلاق من غير تصريح بأهل الكفر؛ لموعظة المسلمين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } يحتمل: حقيثقة زيارة الموتى، وذلك مما يذكرهم أن التكاثر مما لا ينفعهم إذا كان عاقبتهم هذا.
ويحتمل: أي: صرتم إلى المقابر بعد الموت؛ فحيئنذ تذكرون حق الله - تعالى - ثم لا ينفعكم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ }، قال بعضهم: كلا، يمعنى: النفي، والتعطيل.
وقال بعضهم: معنى قوله: { كَلاَّ }، أي: خقا.
فإن كان على الوجه الأول، فكأنه قال: ليس كما حسبتمن وتوهمتم، وقدرتم عند أنفسكم وتعلمون ذلك إذا نزل بكم العذاب، وهو على الابتداء.
وإن كان على معنى: حقا، فكأنه قال: حقا ستعلمون أنه ليس كما قدرتم عند أنفسكم، وكل ذلك يرجع إلى الوجوه التي وصفنا أنكم ستعلمون غدا حقا يقينا: أن الذي ألهاكم، وشغلكم عن توحيد الله تعالى والتفكر في حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان بالبعث كان عبثا باطلاً، وأنه كان من الواجب عليكم: أن تؤمنوا بالله ورسوله، وتنظروا في حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتؤمنوا بالبعث.
وفائدة التكرار: ما جرى من العادة في تكرار الكلام عند الوعيد أو عند الإياس أو الرجاء؛ نحو قولهم: الويل الويل، وقولهم: بخ بخ، وغير ذلك؛ فكذلك هذا.
ومنهم من حمل كل لفظة من ذلك على التأويل على حدة: أن قوله - عز وجل -: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } عند الموت عندما ترون العذاب: أن الأمر ليس كما حسبتم، وتعلمون في يوم البعث أنه حق يقينز
وقوله - عز وجل -: { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ }، يعني بهذا - والله أعلم -: إبطال ما كانوا عليه من الظنون والحسبان في هذه الدنيا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } [الجاثية: 32]، فإذا نزل بهم العذاب تحقق عندهم، وعلموا علما يقينا.
وقال بعضهم: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } حين نزل بكم الموت، { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } في القبر، وكذلك روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة.
وفيه وجه ثان: وهو أنهم كانوا عند أنفسهم علماء، وأنهم على حق، ولكن الله - تعالى - بين لهم أن علمهم كان حسبانا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } } [الكهف: 104]؛ فيظهر لهم عند ذلك: أن اليقين ما نزل بهم، وأن الذي علموا لم يكن علم يقين؛ بل كان شكا وحسبانا.
وقوله - عز وجل -: { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ }، يحتمل وجهين:
أحدهما: يرونها عند الموت.
والثاني: أي: يرونها بالتفكر والنظر في آيات الله وحججه في الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ }، له معنيان:
أحدهما: عيانا ومشاهدة.
والثاني: أن تكون رؤيتهم بعين اليقين، ليس على ما كان عندهم: أنهم لو فتح لهم باب من السماء وعرجوا إليها، لقالوا:
{ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [الحجر: 15]، يقول [الله] تعالى: يرتفع عنهم السحر عن أبصارهم، فيرونها عين اليقين.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } ظاهر هذا يقتضي أن يكون سؤالهم بعدما دخلوا النار؛ لأنه قال: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ } بعدما وصف أنهم يدخلون النار؛ فبان أنه في ذلك الوقت، فإن كان على ذلك، فهو في موضع التقرير عندهم: أنهم استوجبوا المقت والعقوبة؛ لأنه كان عندهم أن من أنعم عليه بنعمة، فمل يشكرها، استوجب المقت والعقوبة؛ فالله - تعالى - يسألهم في ذلك الوقت عن شكر ما أنعم عليهم؛ ليقرر عندهم استيجاب العقوبة، ويجوز أن يكون هذا عند الحساب؛ لأنه قال: { يَوْمَئِذٍ }، ولم يقل: قبل ذلك، أو بعده؛ بل قال على الإطلاق؛ فيعمل به.
وإذا احتمل ذلك الوجه [أن ينصرف] إلى المؤمنين والكافرين كان الوجه في سؤال المؤمنين تذكيرهم أن أعمالهم لم تبلغ ما يستوفى بها شكر النعمة التي أنعمها عليهم، وليعلموا أن الله - تعالى - تفضل عليهم، وتجاوز عنهم، لا أن بلغت إليه حسناتهم، فاستوجبوا رحمته بها؛ بل بكرمه وفضله.
وإن كان في الكفارين، فهو تقرير ما استوجبوا من نقمته حث تركوا شكر نعمه.
ثم قوله - تعالى -: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } إن كان السؤال من الكفرة فإنهم يسألون عما تركوا من الإيمان بالله - تعالى - وبما أتى إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وبغير ذلك من النعيم.
وإن كان في المؤمنين فهو في سائر النعم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها، والله أعلم.