التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ
١
لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
٢
وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
٣
وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ
٤
وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
٥
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
٦
-الكافرون

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ... } إلى آخرها.
ذكر أنها نزلت في منابذة المتمردين المعاندين منهم، الذين علم الله - تعالى - منهم أنهم لا يؤمنون أبدا، ولا يرجعون عما هم عليه من عبادة الأوثان إلى التوحيد والإسلام؛ لأنه لا كل كافر يكون على وصف أنه لا يعبد الله - تعالى - في وقت من الأوقات؛ إذ قد يجوز أن يكون كافراً في وقت، ثم يسلم في وقت آخر؛ فدل ما ذكرنا أنها نزلت في المتمردين المعاندين الذين علم الله - تعالى - أنهم يثبتون على الكفر، ولا يؤمنون أبدا، وكان كما أخبر،؛ ففيه دلالة إثبات الرسالة؛ إذ أخبر أنهم لا يؤمنون، فلم يؤمنوا، وماتوا على الكفر.
وقوله - عز وجل -: { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } أنتم الآن، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ } اليوم { مَآ أَعْبُدُ } فيما بعد اليوم.
وقال بعضهم: الأول: فيما مضى من الوقت، والثاني إخبار عن الحال، والآخر فيما بقي من الوقت.
ولكن لا يجيء أن يكون هكذا؛ بل يجيء أن يكون قوله: { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } في حادث الوقت؛ لأن حرف "ما" إنما يستعمل في حادث الأوقات، يقول الرجل: لا أفعل كذا، يريد به: حادث الوقت.
وقوله: { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } كذلك - أيضا - في حادث الأوقات، أو إخبار عن الحال.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } إنما هو إخبار عن الماضي من الأوقات؛ كأنه يقول: لم أكن أنا عابدا في وقت من الأوقات، وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عبد غير الله قط.
وفي هذه السورة وجهان من الدلالة:
أحدهما: ما ذكرنا من إثبات الرسالة.
والثاني: إخبار عن الإياس لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يرجع إلى دينهم أبدا، وقطع رجائهم وطمعهم في ذلك.
وفيه - أيضا - أن من أشرك غيره في عبادة الله - سبحانه وتعالى - أو عبد غيره دونه على رجاء القربة إلى الله - تعالى - فهو ليس بعابد لله - تعالى - ولا موحد له؛ لأن أولئك إنما عبدوا الأصنام رجاء أن تشفع لهم، ورجاء أن تقربهم إلى الله - تعالى - زلفى؛ أخبر أنها لا تقربهم زلفى، وأنهم ليسوا بموحدين، ولا عابدين لله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } يحتمل وجهين:
أحدهما: لكم جزاء دينكم الذي دنتم، ولي جزاء ديني الذي دنت.
والثاني: على المنابذة والإياس، لكم ما اخترتم من الدين، ولي ما اخترت، لا يعود واحد منا إلى دين الآخر، وكان قبل ذلك يطمع كل فريق عود الفريق الآخر إلى دينهم الذي هم عليه.
وقوله - تعالى -: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } ليس على الأمر، على ما نذكر في سورة الإخلاص والمعوذتين؛ إذ لو كان على الأمر فهو يلزم أن يقول كل واحد منا لكل كافر ذلك، فإذا لم يلزم دل أنه ليس على الأمر.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولى دين).
وعنه أنه قال: "من قرأ هذه السورة فقد أكثر وأطنب".
وفي حديث مرفوع من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل:
"إذا أويت إلى فراشك فاقرأ: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ }؛ فإنه براءة من الشرك" .
وأهل التأويل يقولون: إن سببن زول هذه ومنابذته أياهم: أن رهطا من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هلم فلنعبد ما تعبد، واعبد أنت ما نعبد نحن؛ فيكون أمرنا أمرا واحدا؛ فنزلت هذه السورة.
قال أبو عوسجة: الدين: العادة، تقول: هذا ديني، أي: عادتي.
ثم المعنى الذي وقع عليه التكرار لهذه الأحرف عندنا: أن التكرار حرف جرى الاستعمال به في موضع المبالغة والتأكيد لما قصد به من الكلام في أي كلام كان، رجاء كان، أو وعيداً أو غيره، كقولهم: بخ بخ، والويل الويل، وهيهات هيهات، وغير ذلك، فكذلك في هذا الموضع لما وقع الإياس عن إيمانهم بالله - تعالى - بما علم النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أنهم لا يؤمنون، كرر هذا الكلام؛ تأكيدا للإياس وإبلاغا فيه، والله أعلم. [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين].