التفاسير

< >
عرض

وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
١٠
إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١١
-هود

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } قيل: سعة في المال ونعمة.
{ ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } إياسه ذهاب ذلك المال عنه ونزعه منه عن العود ذلك إليه ويقنطه، والإياس قد يكون كفرا؛ كقوله:
{ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [يوسف: 87].
ويحتمل قوله: { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } في حال ذهاب النعمة، والكَفُور في حال النعمة والسعة، كفور لما رأى نزع ذلك المال والسعة منه جورا وظلماً فهو كفور.
وعن ابن عباس قال: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ } يعني الكافر، { مِنَّا رَحْمَةً } يقول: نعمة العافية وسعة في المال وما يسر به، { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } يعني الرحمة { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } يعني قنوط آيس وأقنطه من رحمة الله؛ وهو كقوله:
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم: 36].
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }: الفرح هو الرضا؛ كقوله:
{ وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الرعد: 26] أي: رضوا بها.
وقيل الفرح: البطر يبطر في حال السعة والرخاء؛ كقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [القصص: 76]، والفرح قد يبلغ كفرا، ويكون الفرح سرورا ولا يكون كفرا.
فخور: يفتخر على الفقراء بالمال الذي أعطي، أو يفتخر على الأنبياء والرسل بالتكذيب، وكذلك كان عادة رؤسائهم أنهم كانوا ذوي مال وسعة، فلا بد يرون الرسالة تكون فيمن دونهم في المال والسعة؛ كقولهم:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]؛ وكقولهم: { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } [سبأ: 35] ونحوه.
ويحتمل قوله: { لَيَئُوسٌ } في حال الشدة، كفور لله في نعمه [في الرخاء وأصل ذلك] أنهم كانوا لا ينظرون في النعم إلى من أنعم عليهم، إنما ينظرون إلى أعين النعم وأنفسها؛ لذلك حملهم نزع ما أعطوا منهم على الإياس والقنوط، وإعطاؤها إياهم على الكفران والفرح والفخر، ولو نظروا في تلك النعم إلى المنعم لم يقع لهم إياس عند النزع، ولا الكفران والفرح عند النيل، بل يصبرون عند النزع من أيديهم ويشكرون للمنعم عليهم في حال النيل.
ثم استثنى فقال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }: قال بعض أهل التأويل: [إلا الذين صبروا على البلايا والشدائد وعملوا الصالحات يعني: الطاعات ويشبه أن يكون قوله:] { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } أي: آمنوا على ما ذكر في غير واحد من الآيات:
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [الشعراء: 227]؛ كقوله: { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [العصر: 1-3]، ويكون قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } عن المعاصي فلم يرتكبوها، { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي: الطاعات والإيمان نفسه هو اعتقاد الانتهاء عن المعاصي كلها، والاتقاء عن جميع ما يدخل نقصاً فيها وإتيان الطاعات جميعاً، وهكذا يعتقد كل مؤمن أن [يتقي وينتهي] كل معصية، ويأتي بكل طاعة ويعمل بها، هذا اعتقاد كل مؤمن وحقيقة الوفاء بذلك كله.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }: يشبه أن يكون قوله: { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لما ارتكبوا على الصغائر من الذنوب، وانتهوا عن الكبائر منها، { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } على ما أتوا وعملوا من الكبائر من الطاعات.
ويحتمل قوله { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } الستر في الدنيا ستر عليهم تلك الذنوب في الدنيا فلم يطلع عليها الخلق { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } بما أظهر منهم ما كان من الطاعات والخيرات حتى نظر الناس إليهم بعين تعظيم بما ظهر منهم من الخيرات وخفي عليهم ما ارتكبوا من المعاصي.
هذا التأويل يكون في الدنيا، والأول في الآخرة.