التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٣٢
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
٣٣
وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٣٤
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ
٣٥
-هود

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا }: قالوا ذلك لأنه قد كان طال عمره وهو بين أظهرهم ويدعوهم إلى الإيمان، فأكثر حجاجه ومجادلته إياهم. فقالوا: { فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } وكان يعدهم العذاب إن لم يجيبوه؛ كقوله: { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود: 26]، وما كان وعد لهم في غير آية من القرآن إن لم يجيبوه فقالوا: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } من العذاب، فقال: { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ } أي: ليس لي إتيان ذلك إنما ذلك إلى الله، إن شاء عجل وإن شاء أخر إلى ما بعد الموت؛ وهو كقول رسول الله لقومه: { لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ ٱلأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام: 58].
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي: لا تعجزون الله عن تعذيبكم فتفوتون عنه، وقيل: وما أنتم بسابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها؛ وهو واحد، والله أعلم.
وقوله: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ }: تأويله - والله أعلم - لا ينفعكم دعائي إلى ما به نجاتكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ثم اختلف في وقت ذلك: قال بعضهم: لا ينفعكم نصحي عند إقبال العذاب عليكم؛ إن كان في حكم الله ألاَّ تكونوا من الغاوين في ذلك الوقت.
وقال بعضهم: قوله: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ } إن كان الله يريد أن يغويكم] أي: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يعذبكم في نار جهنم ويقول الغي العذاب؛ كقوله:
{ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } [مريم: 59] أي: عذاب جهنم ونحوه من الكلام.
وأما عندنا فهو على ما أخبر: إن كان الله يريد إغواء قوم أبدا فهم في الغواية أبداً، وأصله أن الله أراد غواية من في علمه أنه يختار الغواية [وأراد ضلال كل من في علمه أنه يختار الضلال؛ لأن من في علمه أنه يختار الغواية] والضلال اختار عداوته، ولا يجوز أن يريد هو هداية من يعلم أنه يختار عداوته؛ لأن ذلك يكون من الضعف أن يختار المرء ولاية من يختار هو عداوته، فدل أنه لم يرد الهداية لمن علم منه اختيار الغواية والضلال.
ثم إضافة الإغواء والإزاغة والإضلال إلى الله يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه ينشئ ذلك الفعل منهم غيا وزيغاً وضلالا لا بد؛ لأن فعلهم فعل غواية وزيغ.
والثاني: أنه خذلهم ولم يوفقهم ولم يرشدهم ولم يعصمهم ولا سددهم، فمن ذلك الوجه ليس فعله فعل الذم عليه حتى يتحرج بالإضافة إليه، ومن الإضافة إلى الخلق يكون على الذم؛ لأن فعلهم نفسه فعل غواية وضلال، فاستوجبوا الذم عليه بذلك، والإغواء من الخلق هو الدعاء إلى ذلك أو الأمر به، فهو مذموم يذمون على ذلك وليس من الله تعالى من هذا الوجه، ولكن على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وفي قوله: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } دلالة تعليق الشرط على الشرط.
وقوله - عز وجل -: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي: بل يقولون.
إنه افتراه من عند نفسه قل: { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ }: اختلف فيه؛ قال بعضهم: قال قوم نوح لنوح - عليه السلام -: إنه افترى على الله أنه رسول إليهم من الله على ما سبق من دعائه قومه إلى دين الله، فقالوا له: إنه افتراه.
وقال بعضهم: هو قول قوم محمد قالوا: افترى محمد هذا القرآن من نفسه ليس هو من الله على ما يزعم، وهو ما قال في صدر السورة، وهو قوله: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } إلى آخر ما ذكر، فعلى ذلك هذا هو قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه افترى هذا القرآن الذي يقول هو من الله من نفسه فقال: { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } أي: إن افتريته فعليَّ جرمُ افترائي وجزاؤه.
{ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } معناه - والله أعلم - أي: لا تؤاخذون أنتم بجرم افترائي إن افتريته، وأنا لا أؤاخذ بإجرامكم؛ كقوله:
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54] وكقوله: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } [الأنعام: 52]، فعلى ذلك إجرامي، وأمكن أن يكون هذا القول لهم لما أيس من إيمانهم؛ كقوله: { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } [الشورى: 15] لما أيس عن إيمانهم، وانقطع طمعه ورجاؤه عن إسلامهم، قال لهم ذلك أن لا محاجة بيننا وبينكم بعد هذا، والله أعلم.