التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ
٥٠
يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٥١
وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ
٥٢
قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
٥٣
إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٥٤
مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ
٥٥
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٦
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
٥٧
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٨
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
٥٩
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
٦٠
-هود

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً }: هذا والله أعلم صلة قوله: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } فيقول: ولقد أرسلنا هوداً إلى عاد أخاهم.
ثم يحتمل قوله: { أَخَاهُمْ } الأخوة تكون على وجوه: أخوة جنس يقال: هذا أخو هذا نحو مصراعي الباب، يقال لأحدهما: هذا أخو هذا ونحو أحد زوجي الخف وأمثاله. وأخوة النسب. وأخوة الدين؛ كقوله:
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10] فهو لم يكن أخا لهم في الدين، فهو يحتمل أنه أخوهم في الجنس وفي النسب؛ لأن الناس كلهم ينسبون إلى آدم فيقال: بنو آدم مع بعد ما بينه وبينهم؛ فعلى ذلك يكون بعضهم لبعض إخوة مع بعد النسب الذي بينهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ }: يُعبَد أي: الذين تعبدون ليسوا بآلهة يستحقون العبادة [إنما الإله الذي يستحق العبادة] الله الذي خلقكم وخلق لكم الأشياء.
وقوله - عز وجل -: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } أي: ما أنتم إلا مفترون، لا يحتمل أن يكون هو قال لهم هذا في أول ما دعاهم إلى التوحيد، وفي أول ما ردوا إجابته وكذبوه؛ لأنهم أمروا بلين القول لهم وتذكير النعمة عليهم؛ كقوله لموسى وهارون حيث بعثهما إلى فرعون بقوله:
{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } الآية [طه: 44]، ولكن كأنه قال لهم ذلك بعد ما سبق منه إليهم دعاء غير مرة، وأقام عليهم الحجة والبراهين فردوها، فعند ذلك قال لهم هذا حيث قالوا: { يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ... } الآية [هود: 53].
وقوله - عز وجل -: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ }: يحتمل في تسميتهم الأصنام التي عبدوها آلهة، يقول: [إن] أنتم إلا مفترون في ذلك.
ويحتمل أنه سماهم مفترين فيما قالوا الله أمرهم بذلك، يقول: أنتم مفترون فيما ادعيتم الأمر بذلك، أو مفترون في إنكارهم البعث والرسالة.
وقوله - عز وجل -: { يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ }: هذا قد ذكر في غير موضع يقول لهم - والله أعلم -: إني لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا يمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عن الإجابة، فما الذي يمنعكم عن الإجابة لي ويحملكم على الرد [بل أدعوكم إلى] ما ترغبون فيه، فكيف يمنعكم عن الإجابة والنظر فيما أدعوكم إليه؟!
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }: أني رسول إليكم بآيات وحجج جئت بها، أو: أفلا تعقلون أنها آيات وحجج ونحوه، أو يقول: أفلا تعقلون أن الله واحد وأنه رب كل شيء وخالق كل شيء ومنشئه.
وقوله - عز وجل -: { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ }: يحتمل أن يكون قوله استغفروا ربكم ثم توبوا إليه واحدا.
ويحتمل على التقديم والتأخير توبوا إليه ثم استغفروا ما كان منكم من المساوي، أي: أقبلوا إلى طاعة الله واندموا على أفعالكم.
وقوله: { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ }: معلوم أن هودا لم يرد بقوله: { ٱسْتَغْفِرُواْ } أن يقولوا: نستغفر الله، ولكن أمرهم أن يطلبوا السبب الذي به تجب لهم المغفرة وتحق وهو التوحيد، كأنه قال: وحدوا ربكم فآمنوا به ثم توبوا إليه، أو يقول: اطلبوا المغفرة بالانتهاء عن الكفر؛ كقوله تعالى:
{ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38].
وقوله - عز وجل -:{ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ }: قال بعض أهل التأويل: إنه قد كان انقطع عنهم المطر وانقطع نسلهم، فأخبر أنكم إن تبتم إلى الله، واستغفرتم ربكم { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً... } الآية حتى تناسلوا وتتوالدوا.
ويحتمل قوله: { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً } أي: يزدكم قوة أفعالكم إلى قوة أبدانكم؛ لأنهم كانوا أهل قوة وأهل بطش بقولهم قالوا: من أشد منا قوة.
ويحتمل على الابتداء: يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم.
فقوله: { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ } عما أدعوكم فيه؛ فتكونوا { مُجْرِمِينَ } ولا تتولوا عما أدعوكم فيه؛ فتكونوا مجرمين. المجرم قال أبو بكر: هو الوثاب في الإثم، وقيل: هو المكتسب.
وقوله - عز وجل -: { قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ }: على ما تدعونا إليه، أو على ما تدعي من الرسالة، فعند ذلك قال [لهم هود]: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ }.
{ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا } أي: ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا عن قولك، أي: بقولك، كان لا يدعوهم هود إلى ترك عبادة آلهتهم بقوله خاصة، ولكن قد دعاهم وأقام على فساد ذلك الحجج والبراهين، لكنهم قالوا متعنتين مكابرين: { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } فيما تدعونا إليه، وتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا.
وقوله - عز وجل -: { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } قيل: [هو كان] يسب آلهتهم ويذكرهم بالعيب فيقولون: إن يعترك من بعض آلهتنا سوء أو يصيبوك بجنون وخبل، فلا عجب أن يصيبك منها فاجتنبها سالما، فذلك يخرج منهم مخرج الامتنان، أي: إنا إنما ننهاك عن سب آلهتنا وذكر العيب فيها إشفاقاً عليك لئلا يصيبك [شيء منها].
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: قالوا: "شتمت آلهتنا فخبلتك وأصابتك بالجنون"، فتأويله - والله أعلم - أنك إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه وتدعي ما تدعي لما أصابتك آلهتنا بسوء واعترتك بجنون، كانوا يخوفونه أن تصيبه آلهتهم بسوء بتركه عبادتها، على ما كانوا يرجون ويطمعون بعبادتهم إياها شفاعتها لهم؛ قال: { إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } به وتعبدونه من الآلهة، واشهدوا أنتم أيضاً بأني بريء من ذلك، { فَكِيدُونِي جَمِيعاً }: أنتم وآلهتكم فيما تدعونني من الهلاك أو السوء، { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } أي: ثم لا تمهلون في ذلك.
ويحتمل قوله: { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [أنتم وآلهتكم]؛ يقول: اعملوا أنتم وآلهتكم جميعاً التي تزعمون أنها خبلتني وأجنتني، { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ }. أي: لا تمهلون، وهذا من أشد آيات النبوة؛ لأنه يقول لهم وهو بين أظهرهم وحيداً، فلولا أنه يقول ذلك لهم بقوة من الله والاعتماد له عليه والانتصار به، وإلا ما اجترأ أحد أن يقول مثل هذا بين أعدائه علم أنه قال ذلك بالله تعالى؛ وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ... } الآية [الأعراف: 195]، وقول نوح: { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ... } الآية [يونس: 71]، وقول شعيب: { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ... } الآية [هود: 93] وأمثاله، قالوا ذلك بين أظهر الاعداء ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك بالله وذلك من آيات النبوة.
وقوله - عز وجل -: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ } أي: فوضت أمري [إلى الله]، أو وكلت في جميع عملي إليه، أو وثقت به واعتمدت عليه فيما توعدونني من الهلاك، أو توكلت عليه في دفع ما أوعدتموني ربي وربكم، أي: كيف توعدونني بآلهتكم التي تعبدون، ولا تخافون الذي تعلمون أنه هو ربي وربكم؟! وهو كما قال إبراهيم:
{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ... } الآية [الأنعام: 81].
وقوله - عز وجل -: { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ }: يميتها متى شاء.
وقوله: { آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } أي: في ملكه وسلطانه، يقال: فلان آخذ بحلقوم فلان، وفلان في قبضة فلان ليس أنه في قبضته بنفسه أو آخذ بحلقوم فلان، ولكن يراد أنه في سلطانه وفي ملكه وفي قبضته.
{ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي: على الذي أمرني ربي ودعاني إليه، أو يكون قوله: { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي: أن الذي أمرني ربي ودعاني إليه هو صراط مستقيم؛ كقوله:
{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [الفجر: 14].
وقال أبو عوسجة: الاعتراء هو الأخذ، يقال: اعترته الحمى أي أخذته.
وقال القتبي: الاعتراء [هو] الإصابة، بقول: إلا اعتراك: أصابك، يقال: اعتريت: أصبت، وهو ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ }: يحتمل على الإضمار أي: فإن تولوا عن إجابتك وطاعتك فقل قد أبلغتكم [رسالات ربي]؛ لأن قوله: { تَوَلَّوْاْ } إنما هو خبر.
وقوله - عز وجل -: { أَبْلَغْتُكُمْ }: خطاب، وأمكن أن يكونا جميعاً على الخطاب، يقول: فإن توليتم عن إجابتي فيما أدعوكم إليه، فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم وليس علي إلا تبليغ الرسالة إليكم؛ كقوله:
{ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [المائدة: 99]؛ وكقوله: { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } [النحل: 82]، يقول: إنما علي إبلاغ الرسالة إليكم، ليس على جرم توليكم عن إجابتي؛ كقوله: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54] ونحوه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ } [فيه وجهان: أحدهما: يخبر عن هلاكهم؛ لأنه أخبر أنه يستخلف قوماً غيرهم؛ لأنه ما لم يهلك هؤلاء لا يكون غيرهم خلفهم]: لأنهم كانوا يقولون:
{ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت: 15]، يقول - والله أعلم -: إن قوة أبدانكم وبطشكم لا تعجز الله عن إهلاككم، وفيه أن عاداً ليسوا هم النهاية في العالم، بل يكون بعدهم قوم غيرهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } أي: لا تضرونه بتوليكم عن إجابتي وردكم رسالة الله إليكم، ليس كملوك الأرض إذا تولى عنهم خدمهم وحشمهم ضرهم ذلك.
والثاني: لا تضرونه كما يضر ملوك الأرض بالقتال والحرب بعضهم بعضا.
والثالث: لا تضرونه لأنه لا منفعة له فيما يدعوكم حتى يضره ضد ذلك؛ إذ ليس يدعوكم إلى ما يدعو لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، إنما يأمركم ويدعوكم لحاجة أنفسكم والمنفعة لكم.
ويحتمل أن يكون لا تضرونه شيئاً جواب قوله: { فَكِيدُونِي جَمِيعاً... } الآية.
{ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [لا يخفى عليه شيء وإن لطف، فكيف يخفى عليه أعمالكم وأموالكم مع ظهورها وبدوها. أو يقول: إن ربي على كل شيء حفيظ]: فيجزيه عليه، ولا يذهب عنه شيء، أي: لا يفوته، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً }.
قوله: { جَآءَ أَمْرُنَا } أمر تكوين لا أمر يقتضي الساعة؛ كقوله:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82]؛ فعلى ذلك هذا هو أمر تكوين وقد ذكرناه.
وقوله - عز وجل -: { نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا }: هذا يدل أن من نجا إنما نجا برحمة منه لا بعمله؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" ، لا على ما يقوله المعتزلة: إن من نجا إنما ينجو بعمله لا برحمته.
ثم يحتمل قوله: { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } وجوهاً؛ تحتمل الرحمة هاهنا هودا، أي: رحمهم به حيث بعث إليهم رسولا فنجا من اتبعه، فإن كان هذا ففيه أن أهل الفترة معاقبون في حال فترتهم؛ لأنه أخبر أن من نجا إنما نجا بهود، فدل أنهم معاقبون قبل بعث الرسل إليهم.
ويحتمل قوله: { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } أي: بتوفيق منا إياهم نجا من نجا منهم.
والثالث: { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [قال بعضهم: نجيناهم من العذاب الذي أهلك هؤلاء. ويحتمل أن يكون على الوعد أي: ينجيهم في الآخرة من عذاب غليظ].
وقوله - عز وجل -: { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ } أي: وتلك أهل قرية عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسلهم، الكفر بالآيات كفر بجميع الرسل، والكفر بواحد من الرسل كفر بالرسل جميعاً وبالله؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو إلى الإيمان بالله وبجميع الرسل، فالإيمان بواحد منهم إيمان بالله وبجميع الرسل والآيات، والكفر بواحد منها كفر بالله وبجميع الرسل، وإنما كان الكفر بالآيات كفرا بالله؛ لأن الله إنما يعرف من جهة الآيات والكفر بالآيات كفر به.
وقوله - عز وجل -: { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } قيل: أخبر أنهم اتبعوا أمر الجبابرة وأطاعوهم، وتركوا اتباع الرسل وطاعتهم. قيل: الجبار هو المتجبر الذي يتجبر على الرسل ويتكبر عليهم؛ لأن الرؤساء منهم كانوا يتجبرون على الرسل ويتكبرون، ثم الأتباع اتبعوا الرؤساء في عملهم.
قال أبو عوسجة: الجبار هو المتجبر، والعنيد هو المعاند المخالف.
وقال القتبي: العنود والعنيد والمعاند المعارض لك بالخلاف عليك.
وقال أبو عبيدة: العنيد والعنود والمعاند هو الجائر.
وقوله - عز وجل -: { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }: قال بعضهم: اللعن هو العذاب، أي: أتبعوا في الدنيا وفي الآخرة بالعذاب؛ كقوله:
{ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [هود: 18] أي: عذاب الله.
وقوله - عز وجل -: { وَأُتْبِعُواْ } أي: ألحقوا، وقيل: إن اللعن هو الطرد، طردوا عن رحمة الله حتى لا ينالوها لا في الدنيا ولا في الآخرة، إلا أن عاداً كفروا ربهم { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }، أي: ألا بعداً لهم من رحمة الله.