التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ
٥١
وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ
٥٢
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
٥٦
-النحل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ }.
لا نعلم الخطاب بهذا أنه [لمن كان] الخطاب بهذا ألأهل مكة؛ فهم [قد] اتخذوا آلهة بقولهم:
{ أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً... } الآية [ص: 5] إلا أن يخاطب به الثنوية والزنادقة، فإنهم يقولون باثنين، ويشبه أن يكون أهل مكة وإن اتخذوا آلهة فإنهم في الحقيقة عباد إلهين؛ لأنهم إنما كانوا يعبدون تلك الأصنام بأمر الشيطان وطاعتهم إياه، فنسب العبادة إليه؛ لما بأمره يعبدون هذه الأصنام والله أعلم؛ ألا ترى أن إبراهيم قال لأبيه: { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [مريم: 44] وإن كان في الظاهر لا يعبد الشيطان، لكن لما بأمره يعبد الأصنام أضاف العبادة إليه، أو أن يكون المراد من ذكر اثنين: إنما هو على الزيادة على الواحد، كأنه قال: لا تتخذوا ولا تعبدوا أكثر من إله واحد.
وقوله - عز وجل -: { فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ }.
لا تخافون الأصنام التي تعبدونها؛ فإنكم إن تركتم عبادتها لا تضركم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }.
أي: وله يخضع ما في السماوات والأرض وأنتم لا تخضعون، أو ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه؛ فكيف أشركتم عبيده في ألوهية الله تعالى وربوبيته؟
وقوله - عز وجل -: { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً }.
قال بعضهم: دائماً؛ لأن غيره من الأديان كلها يبطل ويضمحل، ويبقى دينه في الدارين جميعاً.
وقال بعضهم: { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } أي: مخلصاً، من الوصب [والنصب] والتعب، وتأويله - والله أعلم -: أي: وله دين لا يوصل إليه إلا بتعب وجهد؛ فاجتهدوا واتعبوا؛ لتخلصوا له الدين؛ هذا معنى قوله: (مخلصا).
وقوله - عز وجل -: { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ }.
أي: أمخالفة غير الله تتقون؛ أي: لا تخافوا ولكن اتقوا مخالفة [الله لا تتقوا مخالفة] غيره.
أو يقول: لا تخافوا غير الله ولا تتقوا سواه، ولكن اتقوا الله واتقوا نقمته.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }.
أي: تتضرعون؛ يخبر عن سفههم وقلة عقلهم أنهم يعلمون أن له ما في السماوات والأرض، وأن كل ذلك ملكه، وأن ما لهم من النعمة منه، وأن ما يحل بهم من البلاء والشدة هو الكاشف لهم والدافع عنهم، ثم يكفرونه ويصرفون شكرها منه إلى غيره في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال الشدة والبلاء؛ فيقول: أنا المنعم عليكم تلك النعم، وأنا المالك للكشف عنكم لا الأصنام التي عبدتموها، فكيف كفرتم بي في وقت الرخاء والسّعة وآمنتم بي في وقت الضيق والبلاء؟! كانوا يخلصون له الدين في وقت ويشركون غيره في وقت، فيقول: أديموا لي الدين بقوله: { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } ولا تتركوا الإيمان بي في وقت وتؤمنوا بي في وقت، وكذلك كان عادتهم: كانوا يكفرون بربهم في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال البلاء والشدة؛ كقوله:
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ... } [العنكبوت: 65] الآية.
ويحتمل أن يكون فرض الجهاد على المسلمين والقتال معهم لهذا المعنى؛ لأن من عادتهم الإيمان في وقت البلاء والشدة والخوف، ففرض عليهم القتال معهم؛ ليضطروا إلى الإيمان فيؤمنوا ويديموا الإيمان، ومنذ فرض القتال معهم كثر أهل الإسلام فدخلوا فيه فوجاً فوجاً، وكان قبل ذلك يُدخَل فيه واحداً واحداً.
وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم [حيث] قال: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } فإنما أخبر عما عرفوا وتقرر عندهم أن كل ذلك من عند الله؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يجعلوا ما آتاهم الله وأنعم عليهم سبب كفرهم بالله.
والثاني: يكفرون بنعم الله - تعالى - بعبادتهم الأصنام، وصرفهم الشكر عنه.
ويشبه أن يكون إخباره عن سفههم من وجه آخر؛ وهو أنهم لم يروا في البشر أحداً يطاع ويخضع إلا أحد رجلين: دافع بلاء عنه، أو جارّ نفع إليه، فالأصنام التي عبدوها ليس منها دفع بلاء ولا جرّ منفعة، فلماذا يعبدونها؟
وقال أبو بكر: { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ }: [أي] بالقرآن.
وقوله - عز وجل -: { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }.
هذا وعيد من الله لهم، يقول: فسوف تعلمون ما ينزل بكم من كفران نعمة وصرف الشكر عنه أنه مهلكهم ومنزل بهم عذابه.
وفي قوله: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }.
أي: تتضرعون، موعظة للمؤمنين أيضاً؛ لأنهم يجعلون يتضرعون إلى الله إذا أصابهم الضر والبلاء، وإذا انكشف ذلك عنهم تركوا ذلك التضرع ونسوا ربهم؛ فيعظهم لئلا يصنعوا مثل صنيع أولئك، يقول والله أعلم؛ أي: تعلمون أن ما بكم من نعمة فمن الله؛ فكيف تصرفون شكرها إلى غيره في حال؟!.
وقوله - عز وجل -: { وَيَجْعَلُونَ } أي: يقولون { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ }.
[قال بعضهم: يجعلون للأصنام والأوثان التي يعبدونها نصيباً مما رزقناهم] من الأنعام والحرث وغيره الذي جعل الله لهم.
ولا يعلمون لهم نصيباً في ذلك؛ وهو كقوله:
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا } [الأنعام: 136] حرموا على أنفسهم ما جعل الله لهم وجعلوه لآلهتهم.
ويحتمل قوله: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً } وهو الشيطان؛ أي: ما يجعلون للأوثان، فذلك للشيطان في الحقيقة، لأنه هو الذي أمرهم بذلك، وهو الذي دعاهم إلى ذلك، وهو كقوله:
{ يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [مريم: 44] ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم إذا عبدوا الأوثان فكأن قد عبدوا الشيطان؛ لأنه هو أمرهم بذلك، وهو دعاهم إلى ذلك، فعلى ذلك ما يجعلون للأوثان ذلك للشيطان لما ذكرنا، لكن لا يعلمون أن ذلك له نصيب.
ويحتمل قوله: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً } أي: يعلمون أن ليس لها نصيب في ذلك، ولكن يجعلون ذلك لها على علم منهم أن لا نصيب للأوثان في ذلك، وهو كقوله:
{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [يونس: 18] أي: أتنبئون الله بما يعلم أنه ليس ونحوه، أي: يعلم غير الذي تنبئون، وقد ذكرنا قوله: { وَيَجْعَلُونَ } على القول، أي: يقولون: وإلا لا يملكون جعل ذلك.
وقوله - عز وجل -: { تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }.
يحتمل قوله: { تَفْتَرُونَ }: تسميتهم الأصنام آلهة، ويحتمل افتراؤهم على الله ما قالوا:
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [الأعراف: 28] زعموا [أن ما] فعل آباؤهم [وفعلوا هم] كان بأمر من الله ورضاه؛ حيث تركهم على ذلك، فذلك افتراؤهم.
وقوله: { تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }.
يحتمل السؤال الجزاء؛ أي: تالله لتجزون عما كنتم تفترون، ويحتمل السؤال سؤال حجة، يسألون على ما ادعوا على الله من الأمر الحجة على ذلك، والله أعلم.