التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٧٠
وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٧١
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
٧٢
-النحل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } فإن قيل لنا أي منة له علينا في ذكر خلقنا ثم توفيه إيانا ورده لنا إلى الحال التي ذكر وهو حال الجهل حتى لا نعلم شيئاً.
قيل ذكر هذا - والله أعلم - يحتمل وجوهاً:
أحدها: يذكرهم أنه هو الذي خلقكم، ثم هو يتوفاكم، ثم هو يملك ردكم إلى الحال التي لا تعلمون شيئاً، وفي ملكه وسلطانه تتقلبون، فكيف عبدتم الأصنام والأوثان التي لا يملكون شيئاً من ذلك وأشركتموها في ألوهيته وعبادته، أو يذكر هذا أنه خلقكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يتوفاكم بعد ما أحياكم، ثم يردكم إلى الحال التي لا تعقلون شيئاً بعدما جعلكم عقلاء علماء، فمن يملك هذا ويقدر على هذا، يقدر على الإحياء بعد الموت والبعث بعد الفناء.
أو يذكر هذا؛ ليعلموا أنه لم يكن المقصود بخلقهم الفناء خاصة، لكن لأمر آخر قصد بخلقهم، وهو ما ذكر فيما تقدم من أنواع النعم وتسخير ما ذكر من الأشياء لهم ليعلموا أن المقصود في خلقهم لم يكن الفناء خاصة؛ إذ لو كان الفناء خاصة لم يحتج إلى ما خلق لهم من الأغذية والنعم التي أنشأ لهم والأشياء التي سخرها لهم.
وقال أبو بكر الأصم: قوله: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ } وكنتم نطفاً أمواتاً فأحياكم، ثم يتوفاكم أطفالا وشيوخاً، ومنكم من يعمر إلى أرذل العمر، يقول: يرده بعد قوة وعلم وتدبير الأمور إلى الخرف والجهل بعد العلم ليبين لخلقه أن العمر والرزق ليس بهما ربي وقوي؛ لأنهما ثابتان ثم يبلى ويفنى بهما ويرجع إلى الجهل، ولكن بلطف من الله وتدبير منه، لا بالأغذية، والله أعلم.
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ } بما دبر في خلقه مما يدركون به قدرة خالقهم، وتصريفه الأمور، وبما يكونون به حكماء وعلماء أن الذي دبرها حكيم قدير على ما شاء، والحكمة فيما ذكر من تفريق الآجال ليكونوا أبداً خائفين راجين؛ لأنه لو كانت آجالهم واحدة يأمنون ويتعاطون المعاصي على أمن، لما يعلمون وقت نزول الموت بهم.
والثاني: ليعلموا أن التدبير في أنفسهم وملكهم لغيرهم لا لهم؛ لأن التدبير والأمر لو كان إليهم لكان كل منهم يختار من الحال ما هو أقوى وآكد.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ }.
قال بعض أهل التأويل: [يذكر] هذا مقابل ما أشركوا خلقه وعباده في ألوهيته [وعبادته]، يقول: فضل الله بعضكم على بعض في الرزق والأموال حتى بلغوا السادة والموالي فلا ترضون أن يكون عبيدكم ومماليككم شركاء في ملككم وأموالكم، فكيف ترضون لله أن يكون عبيده ومماليكه شركاء، إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل.
وقال أبو بكر الأصم: قوله: { فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } أغنى بعضكم، وأفقر بعضاً، وجعل منكم أحراراً وعبيداً { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ } بالغنى والتمليك { بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } من عبيدهم { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } إذ يستوي المولى وعبده فيما ملكت يمينه، يقول: فليس أحد منكم يرضى أن يكون عبده بمنزلته فيما يملك سواء، فإذا رأيتم أنتم ذلك نقصا بكم لو فعلتم، فكيف زعمتم أن الله أشرك بينه وبين أحجار حتى أشركتم ما ملككم الله بينه وبين الأوثان في العبادة وفيما آتاكم من رزق، فقلتم: هذا لله، وهذا لشركائنا { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } يقول أنعم الله عليهم بأنفسهم وأرزاقهم وأموالهم وأولادهم، فأشركوا غير الله فيها، وجحدوا نعمة الله عليهم [بها عصوا]، وبها كفروا، ثم ألزمهم النظر في الفضل الذي ذكر أنه فضل بعضهم على بعض إلى عين الفضل الذي كان من الله، لا إلى الأسباب التي اكتسبوها، ليعلموا أنهم لم ينالوا تلك الفضائل باستحقاق منهم، ولكن إنما نالوا بفضل منه ورحمة، فيكون ذلك دليلا لهم فيما أنكروا من أفضال الله، واختصاصه بعضهم بالرسالة والنبوة، وإن كانوا جميعاً من بشر، ومن جنس واحد على ما فضل بعضهم على بعض في الرزق، والسعة، والملك، والحرية والسلطان، وإن كانوا جميعاً في الجنس واحد، فإذا لم تنكروا هذا النوع من الفضل والاختصاص لبعض على بعض، فكيف أنكرتم ذلك الفضل والاختصاص بالرسالة ممن فضله ورحمته، فلذلك قال - والله أعلم -:
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [الزخرف: 32] أخبر أنه برحمته وفضله ينال ما ينال من الرسالة وغيرها، لا بالاستحقاق والاستيجاب كان منهم، أو أن يذكر سفههم بأنهم يأنفون أن يشركوا عبيدهم ومماليكهم في ملكهم وأموالهم ولهم بهم منافع من الخدمة والإعانة في الأمور، فما بالهم يشركون أحجاراً وخشبا، لا منفعة لأحد منهما في ألوهية الله وربوبيته وفي عبادته: { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } على تأويل النبوة أبفضل الله وبرحمته يجحدون أنه لا يفضل بعضا على بعض بالرسالة، أو يجحدون ما آتاهم الله من النعم، فيصرفون نعمه إلى غيره، وهي الأصنام التي عبدوها، فقالوا: هذا لشركائنا، أو يصرفون شكر نعمه إلى غيره، وهي الأوثان التي عبدوها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } قال الحسن وغيره: الحفدة: الخدم والمماليك، فهو على التقديم، على تأويل هؤلاء، يقول: جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وخدماً من جنسكم؛ لأنه ذكر فيما تقدم: { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ... } الآية، يذكرهم نعمه وفضله الذي ذكر أنه جعل لكم من جنسكم أزواجاً وخدماً تحت أيديهم، يستمتعون بالأزواج، ويستخدمون الخدم والمماليك، وهم من جنسهم وجوهرهم، يذكرهم فضله ومننه عليهم.
أو يشبه أن يكون هذا صلة قوله:
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً... } [النحل: 58] الآية، كانوا يأنفون عن البنات، ويدفنونهن أحياء إذا ولدن أنفا منهن، يقول - والله أعلم -: كيف تأنفون منهن وقد جعل لكم من البنات أزواجاً تستمتعون بهن حتى لا تصبروا عنهن، وكذلك جعل لكم من البنات والبنين الذين ترغب أنفسكم فيهم ما لولا البنات لم تكن لكم الأزواج التي تستمتعون بهن، ولم يكن لكم البنون الذين ترغبون فيهم، والأنصار والأعوان والخدم الذين ترغبون فيهم، يبين ويذكر تناقضهم في الأنفة منهن يأنفون منهن، ومن البنات يكون ما يرغبون فيهم؛ فهذا يدل أن النساء يصرن كالملك للأزواج، ويصرن تحت أيديهم في حق ملك الاستمتاع، كالمماليك في حق ملك الرقاب، ثم جعل - عز وجل - التناسل في الخلق على التفاريق، وتقلبهم من حال إلى حال، وتنقلهم أبداً كذلك ليكون أذكر لتدبيره، وأنظر في آياته ودلالاته، ولو شاء لأنشأ الخلق كله بمرة واحدة، وأفناهم بدفعة واحدة، وكذلك ما جعل لهم من الأرزاق وأنواع النبات، لو شاء لأخرج لهم ذلك كله بمرة واحدة في وقت واحد، لكنه أنشأ لهم بالتفاريق ليذكرهم النظر في آياته وتدبيره، ليكون ذلك لهم أدعى إلى المرغوب، وأحذر للمرهوب، وكذلك ماردد من الأنباء والقصص، والمواعيد، وذكر الجنة والنار في القرآن في غير موضع ليبعثهم ويحثهم على النظر في آياته وتدبيره، ويرغبهم في كل وقت في المرغوب، ويحذرهم عن المحذور والمرهوب، ثم قوله: { جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } وقال في آية أخرى: { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [التحريم: 6] وقال: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [النساء: 29] ونحوه، ذكر الأنفس في [هذا] كله، ثم لم يفهم أهل الخطاب من هذا كله معنى واحداً وشيئاً واحداً، وإن كان في حق اللسان واللغة واحدا لكنهم فهموا في كل غير ما فهموا في آخر، فهذا يدل أنه لا يفهم الحكمة والمعنى في الخطاب بحق ظاهر اللسان واللغة، ولكن بدليل الحكمة المجعولة في الخطاب، ومن اعتقد في الخطاب الظاهر حسم باب طلب الحكمة [فيه] والمعنى؛ لأنه يجعل المراد منه الظاهر.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } هو ما ذكرنا، وحفدة اختلف فيه، قال بعضهم: الحفدة: الخدم والمماليك.
وقال بعضهم: الحفدة: ولد الولد.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الحفدة: الأختان وروي عنه أنه قال: الحفدة: الأصهار فالأصهار والأختان عنده واحد، وقيل: الحفدة: الأعوان والأنصار [يذكرهم التناقض فيما يأنفون من البنات أن كيف يأنفون عنهن ومنهن يكون لكم الأعوان والأنصار] والأختان في أمر الدنيا.
وقال أبو عوسجة: الحفدة: بنو البنين، وقال أيضاً: الحفدة: الأعوان، والحافد: المجتهد في العبادة وفي العمل، يقول: حفد يحفد، أي: خدم واجتهد، وقوله: وإليك نسعى ونحفد، أي: نجتهد.
وقال القتبي: الحفدة: الخدم والأعوان، يقال: هم بنون وخدم. وقال: أصل الحفد: مداركة الخطو والإسراع في المشي، وإنما يفعل ذلك الخدم، فقيل لهم: حفدة، واحدها: حافد. وقال: ومنه يقال في دعاء الوتر: وإليك نسعى ونحفد. وقال أبو عبيد: وأصل الحفد: العمل. وقال: ومنه الحرف في القنوت: نحفد، أي: نعمل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } قال بعضهم: الطيبات: الحلالات.
وقال بعضهم: الطيبات: أي: كل ما طاب ولان ولطف، ورزق غيركم من الدواب والبهائم كل ما خشن، وخبث يذكرهم مننه عليهم ونعمه [عليهم] ليستأدي بذلك شكره.
وقوله - عز وجل -: { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } قال بعضهم: أبالشيطان يصدّقون، ويجيبونه إلى ما دعاهم من الأنفة من البنات، وبنعمة الله هم يكفرون، أي: هذه البنات لكم نعمة، فكيف تكفرونها، وقال: { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } أي: أبالشيطان إلى ما دعاكم وبنعمة الله أي: بمحمد يكفرون، أو بالإسلام، أو بالقرآن.
وقال أبو بكر الأصم: { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } يقول: تقرون بأنكم عبيد لأحجار وتذلون لها وتعبدونها، { وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } يقول: وبما أنعم الله عليكم في أنفسكم وما خولكم ورزقكم تكفرون به، وكان الشكر أولى بكم، والله أعلم.