التفاسير

< >
عرض

مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً
١٩
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
٢٠
ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
٢١
لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً
٢٢
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ }.
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يعملون بأعمالهم الحسنة في حال كفرهم من نحو الإنفاق والصّدقات وبذل الأموال، وغير ذلك - يريدون بذلك العز والشرف والذكر في الدنيا؛ فأخبر أنه من أراد بما يفعل ذلك { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ }.
والثاني: يكون قوله: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ }،أي: لا يريد بها إلا جمع الأموال وسعتها { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ }، ثم أخبر أنه لا كل من أرادها يعجل له ذلك، ولا كل ما أراد يعجل له ذلك؛ ولكن إنما يعجل ما أراد الله ولمن أراد شيئاً يعطي له ذلك، وثم أخبر عما يعطي في الآخرة من أراد العاجلة فقال:
{ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً }.
أي: مذموماً: يسمّى بأسماء قبيحة دنية مذمومة عند الخلق، أو يذم ويلام في النار، { مَّدْحُوراً }: مطروداً من الأسماء الحسنى ومن الخيرات، أو مبعداً عن رحمته.
وقوله: { مَذْمُوماً }: عند نفسه، أي: يذم نفسه يومئذ، أو مذموماً عند الملائكة والخلق جميعاً.
وفي قوله: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } وجهان:
أحدهما: يحتمل أن يكون أراد بإهلاكه إياهم موتهم بآجالهم. يقول: هم كانوا عدداً قليلاً زمن نوح، ثم كثروا حتى صاروا قروناً، ثم ماتوا حتى لم يبق منهم أحد.
ويحتمل أن يكون الإهلاك - هاهنا - إهلاك استئصال: فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه قد استووا في هذه الدنيا - أعني العدو والولي - وفي الحكمة: التمييز بينهما والتفريق؛ فلا بد من دار يفَرَّق بينهما فيها ويميز.
والثاني: قد هلكوا جميعاً، وفي العقل والحكمة إنشاء الخلق للإفناء خاصّة بلا عاقبةٍ تقصد - عبثٌ باطل؛ فدل أن هنالك داراً أخرى هي المقصودة حتى صار خلق هؤلاء حكمة، وفيه إلزام البعث.
وقوله - عز وجل -: { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ }.
تفسير قوله: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ }؛ كأنه قال: من كان يريد العاجلة، وهو كافر بربه مكذب بالآخرة { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ }، ومن كان يريد الآخرة، وهو مؤمن بربه مصدق بالآخرة، { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ }، هذا يدل أنهم إنما أرادوا العاجلة بكفرهم بالآخرة، ثم أخبر أن من أراد بعمله في الدنيا الآخرة، ولها سعيها ما سعى، وهو مؤمن بها.
{ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً }.
أي: مَجزيّاً مقبولاً.
وقوله - عز وجل -: { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ }.
أي: المؤمن والكافر يعطى هذا وهذا، أي: لا نحرم عن العاجلة من أراد الآخرة؛ يخبر أولئك الكفرة بكفرهم بالآخرة أنه ليس يعطي الدنيا وسعتها لمن يكفر بالآخرة؛ ولكن يعطي من كفر بها ومن آمن بها؛ لئلا يحملهم ذلك على حبهم الدنيا وطلب العز والشرف فيها - على كفرهم بالآخرة؛ حيث قال: { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ }، أي: يعطي المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً }.
أي: [ما كان] رزق ربّك وفضله محظوراً. قال بعضهم: محبوساً ممنوعاً. وقال بعضهم: محظوراً: منقوصاً؛ فهو في الآخرة، أي: لا ينقصون في الآخرة من جزائهم، وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيَا عَلَى نِيَّةِ الآخِرَةِ، وَلاَ يُعْطِي الآخِرَةَ عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا" .
وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ الْعَبدُ هَمُّهُ الآخِرَةَ كَفَى الله لَهُ مِنْ ضَيْعَتِهِ، وَجَعَلَ غَنَاءَهُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا كانَ هَمُّهُ الدُّنْيَا أَفْشَى الله عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ؛ فَلا يُمْسِي إِلا فَقِيراً، ولا يُصْبِحُ إِلا فَقِيراً" .
وقوله: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ }؛ للعاجلة - { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ }، وأما من كان يريد العاجلة؛ للآخرة - فهو ليس بمذموم؛ فهو ما ذكر في قوله: { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً }، وهو ما قال: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ... } الآية [هود: 15]، وقوله: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ... } [الحديد: 20].
وأمّا من أراد الحياة الدنيا؛ لحياة الآخرة - فهو ليس بلعب و[لا] لهو؛ لأن الدنيا لم تُنْشَأ لنفسها؛ إنما أنشئت للآخرة؛ فمن رآها لها وأرادها لنفسها - فهو لعب ولهو، ومن رآها للآخرة وأرادها للآخرة فهو ليس بلعب ولا لهو.
وقوله - عز وجل -: { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }.
في الدنيا في الرزق وفي الخلقة: يكون بعضهم أعمى، وبعضهم بصيراً، أو يكون أصمّ ويكون سميعاً، ونحوه؛ فعلى ما يكون في الدنيا على التفاوت والتفاضل يكونون في الآخرة كذلك في المنزلة والقدر عند الله، لا في الضيق والسعة والأحوال التي يكونون في الدنيا؛ حيث قال: { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }.
ولم يقل: أكثر ولا أوسع، دل أنه على القدر والمنزلة عند الله، لا على اختلاف الأحوال التي يكونون في الدنيا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ }.
قد ذكرنا فيما تقدم أن النهي في مثل هذا والخطاب - لرسوله، وإن كان غير موهوم ذلك منه؛ للعصمة التي عصمه؛ فإنّه غير مستحيل [في ذاته]؛ لما ذكرنا أن العصمة إنما ينتفع بها مع النهي والأمر؛ لأنه لولا الأمر والنهي ما احتيج إليها، أو خاطبه به على إرادة غيرٍ؛ على ما يخاطب به ملوك الأرض الأقرب إليهم والأعظم والخطر منهم دون خسائس الناس ورذالهم.
والثاني: أنه يخاطب كلاًّ في نفسه، ليس أنه يخص رسوله بذلك، ولكن كلُّ موهومٍ ذلك منه.
ويحتمل أن يخاطب به كقوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ } [الانفطار: 6، الانشقاق: 6]، و { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [البقرة: 21]؛ ليس إنسان أحق بهذا الخطاب من إنسان؛ فعلى ذلك الأول، أو يقول: إنه يخاطب رسوله؛ ليعلم من دونه أن ليس لأحد وإن عظم قدره عند الله وارتفع محله ومنزلته - محاباة في الدين؛ لأن الرسل هم المكرمون على الله المعظمون عنده؛ فماذا لم يعف عنهم في هذا - لم يعف من دونهم؛ ألا ترى أنه قال للملائكة: { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 29]، وهم أكرم خلق الله؛ حيث وصفهم الله أنهم: { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ؟! [التحريم: 6]؛ فعلى ذلك الرسل؛ ألا ترى أنّه قال على أثره: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } إلى قوله: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا }، ومعلوم أن أبويه كانا ضالين؛ فلا يحتمل أن يخاطب رسوله في قوله: { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا }؛ دل أنه خاطب به كل محتَمَلٍ ذلك منه وموهوم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً }.
عند الناس.
{ مَّخْذُولاً }.
أي: ذليلاً مقهوراً؛ لأن الخذلان هو ضد النصر والعون؛ ألا ترى أنه قال:
{ إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ... } الآية [آل عمران: 160]. ذكر الخذلان مقابل النصر؛ فعلى ذلك قوله: { مَّخْذُولاً }، أي: مقهوراً ذليلاً غير منصور، والله أعلم.