التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً
٣١
وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً
٣٢
وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً
٣٣
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
٣٤
وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٣٥
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
٣٦
وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً
٣٧
كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً
٣٨
ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً
٣٩
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ }.
قال أبو بكر الأصم: إنّ من عادة العرب أنهم كانوا يقتلون البنات ويقتلون البنين؛ إذا صاروا بحيث لا ينتفعون بهم، ويقتلون الآباء والأمهات؛ إذا بلغوا أرذل العمر؛ فنهى الله أهل الإسلام عن الاستنان بسنتهم، وأمر أن يبرّوا الآباء والأمّهات إذا بلغوا ذلك المبلغ، وهو ما قال: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا... } إلى آخر ما ذكر.
وفي قتل ما كانوا يقتلون من البنات قطع التناسل والتوالد الذي كان المقصود من إنشاء هذا العالم؛ ذلك إذ المقصود من إنشاء العالم هذا الذي ذكرنا، وفي قتل البنات قطع ذلك وذهاب المقصود من إنشائه، ثم قال:
{ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم }.
أي: هم لا يأكلون من أرزاقكم؛ بل لكل منكم رزق على حدة، ليس في بقائهم نقصان في رزقكم ولا في فنائهم زيادة؛ بل كلٌّ يأكل رزقه، أو لا ترون أنّه قد أنشأ لهم رزقاً لا شركة لكم فيه، وهو ما أنشأ لهم من اللّبن في الضرع، ولا تنتفعون أنتم به؟! فظهر أن كلاًّ يأكل رزقه، لا يُدْخِل بعضٌ في رزق بعضٍ نقصاناً. ثم قال:
{ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [أي: إن قتلهم في العقول كان خطأ كبيراً]، لما ذكرنا أن في قتلهم قطع ما به قصد في إنشاء هذا العالم وفنائه، أو يقول: { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً }: في الأمم الخالية. ويشبه أن يكون خطاب ما خاطب هؤلاء الآيات: من قتل الأولاد، والزنى، وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك ما تقدم وما تأخر؛ لوجهين:
أحدهما: ما كان للعرب أفعال وعادات السوء ممّا يخرج على السفه والقبح في العقل، خارجة عن الحكمة تنهاهم عن ذلك.
والثاني: ذكر هذا ونهى؛ لما علم أنه قد يكون في خلقه من يفعل ذلك خشية ما ذكر، ويحملهم ذلك على ما ذكر، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً }.
أي: في العقل كان وقت ما كان فاحشة؛ لأن في إباحة الزنى ذهاب المعارف التي بها يوصل إلى الحكمة والعلم، أو كان فاحشة في الحكمة؛ ألا ترى أنه قال:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [الأعراف: 28]: دل قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [الأعراف: 28] - على أن هنالك فحشاء قبل الأمر في الحكمة أو في العقل، حتى قال: { لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [الأعراف: 28]؛ إذ لو لم يكن - لكان قال: لا يأمر، حسب، وفي إباحة قتل الأنفس ذهاب ما به قصد من إنشاء العالم.
أخبر - عز وجل -: [في قتل الأولاد أنه] { كَانَ خِطْئاً كَبِيراً }، وهو ما يعظم في العقل، وذكر في الزنى فاحشة، وهو ما يفحش في العقل والحكمة، وذكر في قتل النفس الإسراف، وقال: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ }، والإسراف هو المجاوزة عن الحدّ الذي جعل له.
ويحتمل قوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ }، أي: لا تزنوا؛ فإنه كان فاحشة، ويحتمل: لا تقربوا الأسباب التي بها يوصل إلى الزنى.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ }.
والحق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ فِي ثَلاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِسْلاَمٍ، أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بغَيْرِ حَقٍّ" .
حرم الله قتل النفس بغير حق؛ إذ في إباحته ذهاب ما قصد من إنشاء [هذا] العالم، وفي التحريم حياة الأنفس، وفي إباحة الزنى ذهاب المعارف وجهالتها، وفي تحريمه: حياة المعارف وإبقاؤها. والوصول إلى الحكمة والعلوم التي يطلب بعضهم من بعض؛ إذ لا يعرف أهل الحكمة من غيرهم؛ ففي ذلك ذهاب العلوم والحكمة.
وفي القتل على الدّين - إذا استبدله - حياة الدّين؛ لأن من تفكر قتل نفسه إذا ترك الدّين - أعني دين الإسلام - ورجع عنه، لم يترك دينه الإسلام، ومن تفكر رجمه بالزنى - امتنع عن الزنى وتركه، ومن تفكر أنه يُقْتَل إذا قَتَلَ غيرَهُ - امتنع عن قتله؛ ولذلك قال:
{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [البقرة: 179].
فإن قيل - في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام -: إنها لا تقتل.
قيل: لأنه ليس في قتلها حياة الدّين؛ لأن النساء أتباع للرجال في الدين؛ لأنهنّ يسلمن بإسلام أزواجهن ويصرن ذمة بذمة الأزواج؛ فإذا كان كذلك - فليس في قتلهن حياة؛ ألا ترى أنه روى أنه فلاناً أسلم وأسلم معه كذا وكذا نسوة؟! والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ }: والحق ما ذكرنا، وقوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ } يحتمل بالإسلام، أو بالذمّة بإعطاء الجزية، وإلا بالحق: ما ذكرنا.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً }.
قيل: سلطاناً، أي: تسلطاً وقهراً. وقال بعضهم: سلطاناً، أي: حجة على القتل فيما يستوجب به القصاص.
ثم ذكر أنه جعل لولي القتيل سلطاناً، ولم يذكر أي وليّ؛ فيشبه أن يكون المراد من الولي الذي يخلف الميت في التركة، وهم الورثة؛ إذ هو حقٌّ كغيره من الحقوق؛ فذلك إلى الورثة، فعلى ذلك حق الدم، فكأنه قال: ومن قتل مظلوماً قد جعلنا لورثته سلطاناً، أي: حجة فيما يستوجب. وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن للواحد من الورثة القيام باستيفاء الدم؛ إذ لو كان للكل الاستيفاء لدخل في ذلك الإسراف الذي ذكر: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ }؛ إذ لو ضرّ به كل الورثة لصار في ذلك مثله، وقد منعوا عن ذلك، فإذا كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لقول أبي حنيفة -رحمه الله ، حيث قال -: إن الورثة إذا كان بعضهم صغاراً وبعضهم كباراً كان للكبار أن يقوموا بالاستيفاء دون أن ينتظروا بلوغ الصغار، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ }.
قال بعضهم: لا يقتل غير قاتل؛ وذلك إذ كان من عادة العرب قتل غير القاتل.
وقال بعضهم: [قوله]: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } [أي: لا يجاوز الحد الذي جعل له في القصاص من المثلة والقطع والجراحات.
وقال بعضهم: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ }، أي: في القتل] الأول؛ حيث قتل نفساً بغير حق، فذلك إسراف؛ كما قال:
{ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة: 32].
وقوله: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } هذا يحتمل أن يكون خاطب به ولي القتيل فقال: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ }، أي: لا يُجاوز الحدّ الذي جعل له؛ على ما روي:
"إذَا قَتَلْتَ فَاَحْسِنِ القَتْلَ" ، والثاني خاطب به القاتل: يقول له لا تقتل؛ فإنه إسراف، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }.
قال بعضهم: إن المقتول كان منصوراً بالولي ينصره الولي؛ بقوله: { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً }. ويحتمل منصوراً بالمسلمين، أي: على المسلمين وغيرهم دفع ذلك القتل عنه؛ هذا على تأويل من يتأول في قوله: { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ } - قَتْلَ غير قاتل وليه، أو يزيد في جراحاته، ويمثل مثلاً بقول: احذروا ذلك؛ فإن على المسلمين دفع ذلك عنه، أو كان منصوراً في الآخرة.
وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن القصاص واجب بين الأحرار والعبيد، وبين أهل الإسلام وأهل الذمة؛ لأن الله - تعالى - قال: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ }؛ فكانت أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في هذه الآية؛ لأنها محرمة وفيه ما ذكرنا أن للكبير من الورثة قتله، وإن كان فيهم صغار.
وروي أن الحسن بن علي - رضي الله عنه - قتل قاتل أبيه فلاناً، وفي الورثة صغار لم يدركوا يومئذ.
ويحتمل أن يكون { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } في ظاهر هذا: أن القاتل هو كان منصوراً، [ثم إنه قال: { كَانَ مَنْصُوراً }] ولم يقل: هو منصور، فجائز أن يقول: { كَانَ مَنْصُوراً }، قبل: قتل هذا إذا كان على المسلمين مضرة، فلما قتل كان غير منصور، إلا أن يقال: إن الولي صار منصوراً، وذلك جائز. وفي قوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ }: يحتمل النهي عن نفس الزنى، ويحتمل أسباب الزنى: من نحو القُبْلة، والمسّ، وغيره؛ على ما ذكر:
"العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، واليدانِ تَزْنِيانِ، والْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ كُلَّه أو يُكَذِّبُ" .
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }.
قوله: { أَحْسَنُ }: هو أفعل، فإن كان في الأشكال فهو على غاية الحسن، وإن كان في الجوهرين فهو على طلب الحسن؛ كقوله:
{ وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [الزمر: 55] أي: اتبعوا ما هو طاعة؛ كأنه قال: ولا تقربوا مال اليتيم إلا ما هو خير له وحسن، وهو ما قال: { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } [النساء: 6]، يقول: لا تأكلوا إسرافاً وبداراً، ولكن اقربوا ما هو خير له. وإن كان على طلب الغاية من الحسن، فهو ما قال أبو حنيفة -رحمه الله -: إذا قرب مال اليتيم لمنفعة نفسه فلا يقربه إلا لمنفعة حاضرة لليتيم، لا يقرب ماله لمنفعة مرجوة، وإذا قرب مال اليتيم لليتيم فإنه يجوز أن يقربه لمنفعة مرجوة له، وإن لم يكن فيه منفعة حاضرة، وقدر ذكرنا تأويله وما فيه من الدلالة بقول أبي حنيفة -رحمه الله - فيما تقدم في سورة الأنعام.
ثم من الناس من احتج بهذه الآية لقول أبي حنيفة حيث قال: إن للوصي أنْ يبيع مال اليتيم من نفسه إذا كان خيراً له؛ لأن له أن يبيع من غيره بمثل قيمته؛ فدلّ أن ذكر الخير له إذا كان يبيع من نفسه.
وقوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }: كأنه على الإضمار، أي: لا تقربوا مال اليتيم إلا بالوجوه التي هي أحسن له وأنفع، وهو الحفظ له وطلب الربح والنماء، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }.
أي: حتى يستحكم عقله، ويستتم تدبيره في ماله وأمره؛ فعند ذلك يكون الأمر إليه، وليس فيه أنه لا يكون بعد ذلك الأمر إلى الوصي إن كان؛ ولكن بإذنه يبيع ويشتري.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }.
يحتمل أن يكون قوله: { بِالْعَهْدِ } - العهود والمواثيق التي بين الناس أمروا بوفاء ذلك، ويحتمل الأمر بوفاء العهد ما ذكر في هذه الآيات من الأمر والنهي: من نحو ما قال:
{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء: 23] إلى هذا الموضع، أي: وأوفوا بذلك كله؛ فإن ذلك كله كان مسئولاً يُسْأل عنه: وفاءً كان ذلك أو نقضاً.
وقال بعضهم: { إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }، أي: ناقض العهد كان مسئولاً، ثم إن العهد على وجوه:
أحدها: عهد خِلْقة، أو العهد الذي أخذ عليهم على ألسن الرسل أو العهد الذي يجري بين الناس؛ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ }.
أمر بتوفير الكيل إذا كالوا والوزن إذا وزنوا لهم، وإيفاء حقوقهم، وهو ما قال:
{ وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [هود: 85] إن من عادتهم إذا كالوا أو وزنوا يبخسون الناس أشياءهم، ولم يوفروا حقوقهم؛ فنهاهم عن ذلك، وأوعدهم بالوعيد الشديد، وهو قوله: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [المطففين: 1-3]: ذِكْرُ تخصيص للكيلي والوزني من بين سائر الأشياء يحتمل وجهين:
أحدهما: لما بهما يجري عامّة معاملة الناس؛ فأمرهم بإيفاء ذلك.
والثاني: لخوف الربا؛ لأن الكيلي والوزني هما اللذان يكونان دَيْناً في الذمة؛ فإذا أخذ شيء منهما أخذ عما كان ديناً في الذمّة، فإن نقص أو زاد فيكون ربا؛ لذلك خصّ، وإن كان غيره من الأشياء يؤمر بالإيفاء والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ }.
قال بعضهم: القسطاس: حرف أخذ من الكتب السالفة ليس بمعرفة، وقال بعضهم: هو العدل، أي: زنوا بالعدل، وقال بعضهم: هو الميزان؛ كقوله:
{ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } [الأنعام: 152]، وقال بعضهم: { بِٱلقِسْطَاسِ }: القبان؛ فكيفما كان ففيه ما ذكرنا: من الأمر بتوفير الكيل والوزن، والإيفاء لحقوقهم، والنهي عن البخس والنقصان.
وقوله - عزّ وجلّ -: { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.
يحتمل قوله: { ذٰلِكَ خَيْرٌ } - ما ذكر من توفير الكيل والوزن وإيفاء الحقوق - خير في الدنيا؛ لما فيه أمن لهم من الناس.
{ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }، أي: أحسن عاقبة في الآخرة، ويحتمل قوله ذلك - ما ذكر في هذه الآيات من أولها إلى آخرها: إذا عملوا بها خيرٌ لهم في الدنيا وأحسن تأويلاً، أي: عاقبة.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }.
قيل: لا تقف، أي: لا تقل، وقيل: لا تَرْمِ، وقيل: لا تتبع؛ فكيفما كان - ففيه النهي عن القول والرمي فيما لاعلم له به، ولا ترم ما ليس لك به علم، ولا تقل ما ليس لك به علم.
{ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }.
قال بعضهم: { كُلُّ أُولـٰئِكَ } يعني: السّمع والبصر والفؤاد - يُسْأل عما عمل صاحبه؛ كقوله:
{ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ... } الآية [يس: 65]، وقوْله: { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم } [فصلت: 20] تُسْأَل هؤلاء عما عمل صاحبها؛ فيشهدون عليه.
وقال بعضهم: هو عن كل أولئك كان مسئولاً، أي: يسأل المرء عما استعمل هذه الجوارح؟ وأنه: فيم استعملها؟
وقال بعضهم، قوله: { أُولـٰئِكَ }: يعني الخلائق جميعاً، { عَنْهُ }: يعني عما ذكر من السمع والبصر والفؤاد، { مَسْؤُولاً }.
وقال بعضهم في قوله: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }، يقول: لا تقل: رأيتُ، ولم تر، وسمعتُ، ولم تسمع، وعلمتُ، ولم تعلم.
ومنهم من قال: في شهادة الزور؛ فإن احتج محتج بهذا في إبطال القياس والاجتهاد؛ فيقول: إذا قاس الرجل فقد قال ما ليس له به علم، لكن ليس كذا؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكلموا في الحوادث بآرائهم، وشاوروا في أمورهم، وولى أبو بكر عمر - رضوان الله عليهما - الخلافة بغير نصّ من الرسول عليها، وجعلها عمر شورى بينهم، ولم يُرْوَ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول: إنهم فعلوا ذلك بغير علم، ولا: قالوا ما لم يعلموا؛ فدلّ ما ذكرنا أن معنى قول الله - تعالى -: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } - ليس يدخل فيه الاجتهاد في الأحكام، وتشبيهه الفرع الحادث بالأصل المنصوص عليه، والله أعلم.
وقال القتبي: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }، أي: يتناهى في الثبات إلى حال الرجال، ويقال: ثماني عشرة سنة، وقال: أَشُدُّ اليتيمِ غير أشدّ الرجل في قوله:
{ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف: 15]، والأشد ما ذكرنا من استحكام عقله وتدبيره إلى ألا يؤخذ بالنقصان، وهو إذا جاوز أربعين يأخذ في النقصان، وإلى أربعين يكون على الزيادة والنماء.
ويحتمل قوله: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ }، أي: لا تقف ما ليس لك به علم بأسباب العلم، وهو ما ذكر من السمع والبصر، وجائز أن يكون: { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }: يسأل عن شكر هذه الأشياء، أو يسأل عما امتحن بهذه الأشياء.
وفي قوله: { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } - دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه أمر بإيفاء الكيل والوزن، ولا يقدر على ذلك إلا باجتهاد الكائل والوازن؛ لأن كيل الرجل يزيد على كيل غيره وينقص، وربما كال الرجل الشيء ثم يعيد كيله هو بنفسه فيزيد أو ينقص، ولا يكاد يستوي الكيلان وإن كانا من رجل واحد، وإنما يكلف الاجتهاد في كيله وترك التعمد للزيادة أو النقصان [فيه]؛ فإذا فعل ذلك فقد وفر الكيل وأدى الواجب، وهذا عندنا أصل الاجتهاد والاستحسان؛ لأن الكائل إنما يجتهد في توفيته الحق، ولا يعلم يقيناً أنه وفى ما كان عليه من الكيل الذي سمياه في العقد؛ فعلى ذلك الاستحسان إنما هو اجتهاد العالم في اختيار أحسن ما يقدر عليه إذا لم يكن للحادثة أصل يردها عليه ويشبهها به، والله أعلم.
قوله - عزّ وجلّ -: { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً }.
ليس النهي عن المشي نفسه؛ إنما النهي للمشي المرح، ثم النهي عن الشيء يوجب ضدّه، وكذلك الأمر، ثمّ إن النهي عن الشيء يوجب الأمر بضده؛ [والأمر بالشيء يوجب النهي بضده] وهاهنا نهي عن المرح؛ فيكون أمراً بما ذكر؛ كقوله:
{ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } [الفرقان: 63]، وقال بعضهم: مرحاً: بطراً وأَشَراً، وقيل: متعظماً متكبراً بالخُيَلاء.
وقوله - عزّ وجلّ -: { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً }.
قال بعضهم: ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولاً؛ لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها، ويبلغ طول الجبال، وهم الملائكة، ثم لم يتكبّروا على الله ولا تعظموا عليه ولا على رسوله؛ بل خضعوا له؛ فمن لم يبلغ في القوة والشدّة ذلك - أحرى أن يخضع له ويتواضع ولا يتكبر.
ويحتمل أن يكون ذكر هذا؛ لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدين، وقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولاً - لم يتهيأ لكم إطفاء دين الله، وقهر رسوله، وهو ما ذكر:
{ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ } [غافر: 56]، أو يذكر هذا يقول: إنك لن تبلغ بكبرك وعظمتك مرتبة الرؤساء والقادة ومنزلتهم، على هذا التمثيل يحتمل أن يخرج، والله أعلم.
أو يقول: إنك لن تخرق الأرض، أي: لا تقدر أن تخرق [الأرض]؛ فتستخرج ما فيها من الكنوز والمنافع؛ فتنتفع بها، ولا تقدر أن تبلغ الجبال طولاً؛ فتنتفع بما في رءوس الجبال من المنافع، وكيف تتكبر وتمرح على غيرك، وهو مثلك في القوّة والشدّة. وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج - لم يتكبّر على مثله، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { كُلُّ ذٰلِكَ }.
أي: كل ما أمر الله به ونهى عنه في هؤلاء الآيات.
{ كَانَ سَيِّئُهُ }.
بالعقل.
{ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً }:
مسخوطاً، وفيه دلالة أن الأمر الّذي أمر في هذه الآيات ونهاهم عنه - لم يكن أمر أدب ولا نهي أدب، ولكن أمر حتم وحكم؛ حيث ذكر أن ذلك عند ربك: { مَكْرُوهاً }؛ إذ لو كان أدباً لم يكره أي شيء ما ذكر في مكروه عند ربّك، وهو كقوله:
{ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر: 18]، أي: يسمعون [الكل؛ فيتبعون أحسنه]، ويتركون غيره؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ }.
أي: ذلك الذي أمر الله به ونهى عنه في هؤلاء الآيات من الحكمة - ليس من السفه، أي: ما أمر فيها هو حكمة وما نهى عنه [إنما نهى عنه؛ لأنه سفه].
وقال بعضهم: الحكمة - هاهنا - القرآن، قوله: { ذَلِكَ }، أي ذلك الذي أوحى إليك هو حكمة، وقال بعضهم: الحكمة: الإصابة، أي: ذلك الذي أوحى إليك صواب. وقوْله: { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ }، أي: ما ذكر في هذه الآيات وأمر به ونهى عنه - هو من الحكمة، والحكمة: هي وضع الشيء موضعه، [يقول: حكمه: وضَع الشيء موضعه، لا] وضَع الشيء غير موضعه.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }.
معلوم أن رسول الله لا يجعل معه إلهاً آخر؛ إذ عصمه واختاره لرسالته، لكنّه ذكر هذا ليعلم أنه لو كان منه ذلك فيفعل به ما ذكر؛ فمن هو دونه أحق أن يفعل به ما ذكر، وهو ما قال في الملائكة:
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ... } الآية [الأنبياء: 29]. أنه عصمهم حتى أخبر أنهم: { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 27]؛ فمن لم يكن معصوماً - لم يوصف أنه لا يسبق بالقول؛ فعلى ذلك قوله: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً }: عند الله، أو عند نفسك، أو عند الخلق.
{ مَّدْحُوراً }:
مبعداً مطروداً من رحمته في النار، أو: خاطب به رسوله، وأراد به غيره؛ على ما ذكرنا في غير موضع، والله أعلم.