التفاسير

< >
عرض

وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
٤٩
قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً
٥٠
أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً
٥١
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
٥٢
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عزّ وجلّ -: { وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً }.
أي: أئذا كنا عظاماً بالية ناخرة و { وَرُفَاتاً }، قيل: ترابا، وقيل: غباراً، وقيل { وَرُفَاتاً }: أي: بالية؛ حتى إذا فتتت - تكسرت وذهبت، كقوله:
{ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [النازعات: 11-12]، أي: غير كائنة، قالوا ذلك كله: إنكاراً للبعث واستهزاءً به أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم، وهذا كأنهم قالوا ذلك على التعجب، والاستبعاد عن كون ذلك، والاستهزاء بذلك، والجهل به هو الذي حملهم على التعجب والاستهزاء بما ذكر.
أنكر هؤلاء الكفرة قدرة الله على البعث كما أنكر المعتزلة قدرته على خلق أفعال العباد، وليس لهم الاحتجاج على أولئك الكفرة بإنشاء الأوّل؛ لأن لهم أن يقولوا: إنكم تقرون بالقدرة على خلق الأول، وتنكرون خلق أفعالهم، وليس لكم الاحتجاج.
وقوله - عزّ وجلّ -: { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ }.
قال بعض أهل التأويل: أي: لو كنتم حجارة أو حديداً فيميتكم، لكن هذا بعيد؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون الموت؛ إذ كانوا يشاهدون الموت؛ فلا يحتمل الإنكار، ولكن كانوا ينكرون البعث بعد الموت وبعدما صاروا تراباً ورفاتاً، إلا أن يقال: إنكم لو كنتم بحيث لا تبعثون ولا تجزون بأعمالكم لكنتم حجارة أو حديداً، لم تكونوا بشراً؛ لأن الحجارة والحديد ونحو ذلك غير ممتحن، ولا مأمور بشيء، ولا منهي عن شيء، وأما البشر فإنهم لم ينشئوا إلا للامتحان بأنواع المحن والأمر والنهي والحل والحرمة، فلا بد من الامتحان؛ فإذا امتحنوا بأشياء لا بدّ من البعث للجزاء والعقاب، فإذا لم تكونوا ما ذكر ولكن كنتم بشراً فاعلموا أنكم تبعثون وتجزون بأعمالكم على هذا يحتمل أن يصرف تأويلهم، لا إلى ما قالوا؛ وإلا ظاهر ما قالوا وتأولوا لا يحتمل؛ لما لا أحد أنكر الموت.
ويحتمل قوله: { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ }، أي: لو كنتم ما ذكر حجارة أو حديداً أو أشدّ ما يكون من الخلق لقدر أن ينشئكم بشراً من ذلك؛ فكيف إذا كنتم بشراً في الابتداء؟! أي: يعيدكم بشراً على ما كنتم كما أنشأكم في الابتداء من ماء وتراب، وليس في ذلك الماء والتراب من آثار بشر شيء من العظام واللحوم والعصب والجلد وغيرها؛ فمن قدر على إنشاء [هذا قدر على إنشاء] البشر بعد الموت وبعد ما صار تراباً ورفاتاً، على هذا يجوز أن يتأول.
ووجه آخر أن يقال: ظنوا أن لو كنتم حجارة أو حديداً أو ما ذكر لبعثكم؛ فكيف تظنون أنه لا يبعثكم إذا كنتم تراباً ورفاتاً أو كلام نحوه.
وقوله - عزّ وجلّ -: { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ }.
ذكروا هذا وكل ما يكبر في صدورهم على ما ذكر.
{ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا }.
استهزاء منهم به.
{ قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }.
إنهم، وإن قالوا ما قالوا استهزاء به وسخرية، فقد أمر الله - تعالى - أولياءه المؤمنين أن يحاجّوهم محاجة العقلاء والحكماء مع الحجج والبراهين، وإن كانوا قالوا سفهاً واستهزاء، وعلى ذلك عاملهم الله، وإن كانوا سفهاء في قولهم مستهزئين، وكذلك أمر رسله أن يعاملوا قومهم أحسن المعاملة؛ حيث قال:
{ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]، وقال: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الإسراء: 53] وإنما ذكر الله هذه الآيات؛ ليحاجّ بها هؤلاء، ويعلم أن كيف المعاملة مع هؤلاء؛ إذ قد أقام الله - تعالى - من الآيات والحجج على بعثهم وإحيائهم حججاً كافية ما لم يحتج إلى مثل هذا، لكنّه ذكر هذا؛ لما ذكرنا - والله أعلم -: كأن الذي حملهم على إنكار ذلك وجوه من الاعتبار:
أحدها: أنهم لم يروا من الحكمة إماتتهم ثم الإحياء على مثل ذلك إذ لو كان يحييهم ثانياً - لكان لا يميتهم؛ كنقض البناء على قصد بناء مثله.
والثاني: لما رأوا أقواماً قد ماتوا منذ زمن طويل ثم لم يبعثوا؛ فيقال لهم: إنه قد تأخر كونكم وإنشاؤكم، ثم لم يدلّ تأخركم على أنكم لا تكونون؛ فعلى ذلك لا يدلّ تأخر البعث على أنه لا يكون.
وأما جواب الأوّل فإنه يقال لهم: إنكم تقرون أنه أنشأكم أوّل مرة وأنه يميتكم، فليس من الحكمة إنشاء ثم الإماتة؛ لأنه يكون كمن بنى بناء للنقض والإفناء؛ فإذا كان [الأول] حكمة كان الثاني - أيضاً - حكمة، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }.
أي: يعيدكم الذي خلقكم أوّل مرة ولم تكونوا شيئاً على ما ذكرنا وإعادة الشيء [في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه؛ إذ لا أحد في الشاهد يتكلف تعلم إعادة الشيء] ومعرفته، وإنما يتكلفون تعلم ابتداء الصناعات ومعرفتها، ثم يعرفون إعادة [ذلك] بمعرفة ابتدائية؛ فدلّ [ذلك] أنه أهون وأيسر، وهو ما قال:
{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27]، أي: في عقولكم ذلك أهون وأيسر.
وقوله - عزّ وجلّ -: { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ }.
أي: يحركون رءوسهم؛ استهزاء به وهزواً.
{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ }.
على الاستهزاء أيضاً، أي: لا يكون.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ }: قالوا ذلك جهلاً به وإنكاراً، وإلاّ لو علموا أنه كائن لا محالة لكانوا لا يقولون ذلك؛ بل يخافون كما خاف الذين آمنوا به.
وقوله - عزّ وجلّ -: { قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً }.
و (عسى) من الله واجب، أي: يكون لا محالة.
وقوله - عز وجل -: { قَرِيباً }، أي: كائناً، القريب يقال على الكون، أي: كائناً، ويقال على القريب والبعيد كذلك يقال على الإنكار رأساً، ويقال على الاستبعاد؛ كقوله:
{ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج: 6-7]، أي: هم لا يرونه كائناً، ونراه نحن كائناً؛ كقوله: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ } [الشورى: 18]: كانوا يستعجلون بها؛ لما لم يكونوا يرونه كائناً والمؤمنون يرونه كائناً، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه }.
يحتمل هذا الدعاء، والإجابة: دعاء الخلقة، وإجابة الخلقة؛ لما كانت خلقتهم تعظم ربهم، وتحمده في كل وقت، وتنبئ على ما ذكرنا في غير آية من القرآن.
ويحتمل دعاء القول وإجابة القول والعمل؛ لما كانوا عاينوا قدرته وعظمته أجابوا له بحمده وثنائه؛ كقوله:
{ مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } [القمر: 8] [ونحوه] أو أن يكون قوله: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ }: يوم القيامة - كقوله: { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ... } الآية [القمر: 6].
وقوله:
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ... } الآية [إبراهيم: 43]: أخبر أنهم يجيبون داعيهم يومئذ ويثنون على الله؛ لما رأوا من الأهوال من ترك الإجابة له في الدّنيا.
وقوله - عزّ وجلّ -: { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه }، أي: تجيبون داعيه بثنائه وبحمده، أي: تثنون على الله وتحمدونه.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً }.
قال الحسن: قوله: { وَتَظُنُّونَ } أي: تعلمون وتيقنون أنكم ما لبثتم في الدّنيا إلا قليلاً، وكذلك قال قتادة، أي: يستحقرون الدنيا ويصغرونها؛ لما عاينوا القيامة وأهوالها.
[وجائز أن يكون قوله: { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } في القبر وجائز أن يكون في الدنيا يستقصرون المقام فيها لطول مقام الآخرة وأهوالها] ثم من أنكر عذاب القبر احتج بظاهر هذه الآية؛ حيث قال: { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً }، وقوله:
{ لَبِثْنَا يَوْماً } [الكهف: 19]، ومثله قالوا في العذاب والشدة: لم يكونوا يستقصرون ويستصغرون المقام فيه؛ إذ كل من كان في عذاب وبلاء وشدة - يستعظم ذلك ويستكثر ولا ينساه أبداً، هذا المعروف عند الناس فإذا هم استقلوا ذلك واستصغروه حتى قالوا: { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف: 19]، وقالوا: { قَلِيلاً } ويسيرا، دلّ ذلك أنهم لم يكونوا في عذاب وبلاء.
ويتأولون قوله:
{ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46] على التقديم والتأخير، يقولون تأويله: ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب النار يعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً - ليس على ألاَّ يكون لهم عذاب فيما بين ذلك؛ ولكن على ما [ذكر] في الجنة: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 62].
ومن يقول بالعذاب في القبر يقول: قوله: { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } في الدنيا، أو يقولون ذلك في وقت وهو ما بين النفختين.
كذلك يقولون: إنه يرفع عنهم العذاب ما بين النفخة الأولى والثانية، وهذا احتيال.
ويقال - أيضاً -: ليس في استقلالهم المقام والاستقصار ما يدلّ على أن لم يكن لهم عذاب في القبر؛ لأن العرف في الناس أنهم [إذا] كانوا في بلاء وشدّة ونوع من المرض، ثم نزل بهم ما هو أشدّ من ذلك وأعظم؛ استصغروا ما كانوا هم فيه ونسوا ذلك؛ فعلى ذلك هؤلاء إذا عاينوا عذاب القيامة وأهوالها و أفزاعها استصغروا ما كان بهم من العذاب في القبر، ونسوا ذلك؛ ألا ترى أنهم إذا عاينوا الجنة ونعيمها نسوا ما كان لهم من النعم في الدنيا، ولا شك أنه قد كان لهم نعيم في الدنيا فعلى ذلك العذاب.
وقال أبو عوسجة: { وَرُفَاتاً }، قال: رفاتاً منكسرة، وفتته، أي: كسرته.
وقال القتبي:
{ أَكِنَّةً } [الإسراء: 46]: جمع كنان، مثل غطاء وأغطية.
{ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ }، أي: يتناجون، يسار بعضهم بعضاً أنه مجنون، وأنه ساحر كاهن وأساطير الأولين.
وقال بعضهم: كان نجواهم ما ذكر في سورة الأنبياء حين قالوا:
{ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ... } الآية [الأنبياء: 3]؛ فذلك قوله: { وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ } [الفرقان: 8] أي: ما تتبعون { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [الفرقان: 8]. قال أبو عبيدة: { مَّسْحُوراً }؛ أي: قد سحر به، وهو يناقض قولهم، وقد ذكرنا وجه تناقض قوله فيما تقدم، والله أعلم.